د. عبدالحق عزوزي
سبق أن أرسلت أبياتًا تعجبني عن طريق الواتساب إلى الوالد والشاعر العربي الكبير معالي الدكتور الأستاذ مانع سعيد العتيبة، وصادف إرسالي لهاته الأبيات وقوع انفجار في مرفأ بيروت.. وهاته الأبيات هي للشاعر أبي البقاء صالح بن يزيد الرُّنْدِي الأندلسي الذي عاشَ في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس، وشهد سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد الإسبان. وهو من حفظة الحديث والفقهاء. وقد كان بارعًا في نظم الكلام ونثره. وكذلك أجاد في المدح والغزل والوصف والزهد.. إلا أن شهرته تعود إلى قصيدة نظمها بعد سقوط عدد من المدن الأندلسية، واسمها «رثاء الأندلس». يقول في بعض من أبياتها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ
إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو
كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ
وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب
وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له
حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
إلى أن يقول:
دار الزمان على دارا وقاتله
وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
فجائع الدهر أنواع منوعة
وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها
وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له
هوى له أحدٌ وانهد نهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ
حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ
وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم
من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
ثم ما فتئ العلامة الدكتور مانع سعيد العتيبة يجاري شاعرنا الأندلسي في أبيات نونية جميلة، وينظمها، ويرسلها إلي في وقت قياسي؛ كيف لا وهو شاعر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، وفي لسنه بلاغة تعلو وما يُعلى عليها؛ حتّى لم يكن للإحاطة بجميع شعره من سبيل، وهو يُعدّ من الشعراء القلائل الذين جمعوا بين الأدب والدبلوماسية والمسؤوليات الرسمية في أعلى تجلياتها؛ وهو ما يفسر بعضًا من الجوائز الدولية الرفيعة التي حصل عليها. يقول في هاته الأبيات، وأترك قراءنا الأعزاء للاستمتاع بظلالها:
أبا البقاءِ سلاماً فيه أشجانُ
وكلُّ شيءٍ له في العَيْشِ نُقصانُ
ما قلتَه أمْسِ عن مأساةِ أندلسٍ
يقولُه اليومَ يا رَندِيُّ لُبنانُ
وهَا أنا يا رَفيقَ الشِّعْرِ أنقُلُهُ
وفي فؤادي من الأحْزانِ وُدْيانُ
قلتَ: الأمورُ التي شاهَدْتَها دُوَلٌ
أنا أقول: وباءُ الكوْنِ طُغْيانُ
بيروتُ تُذْبَحُ في عِزِّ النّهارِ ولا
يَهْتَزُّ للذّابِحِ العِرْبِيدِ شُريانُ
لو عُدْتَ حَيّاً سَوِيّاً كي ترى بلداً
بعد المحَبَّةِ حلَّتْ فيه أضغانُ
كجَنّةٍ كان للعُربانِ قاطِبَةً
لها يتُوقُ بكلِّ الحُبِّ رُضوانُ
أحالَهُ الظُّلْمُ جُثماناً وجَرَّدَهُ
من الحياةِ ولم تَسْتُرْهُ أكْفانُ
عصائِبُ النَّهْبِ في أرجائِهِ انْتَشَرَتْ
كما الهَشِيمُ إذا مَسَّتْهُ نِيرانُ
لم تُبْقِ في أرضِه حَجراً على حَجَرٍ
أنقاضُ بيروتَ للطُّغيانِ بُرهانُ
أبا البقاءِ بَكَيْنَا أمْسِ أندلُساً
واليومَ دَمْعي على لُبنانَ طُوفانُ
لكنّني رُغمَ أنْفِ الدّمعِ بي ثِقةٌ
أنْ تَصْنَعَ الفَرَحَ المَنْشُودَ أحزانُ
رثَيْتَ أنْدلُساً بالأمسِ في أَلَمٍ
واليَوْمَ في أمَلٍ تَنسابُ ألحانُ
وسوفَ نسمعُ من فيروزَ أغنيّةً
في حبِّ لبنانَ إنّ الشّدْوَ سُلوانُ
وسوفَ يرجِعُ أمْنٌ غابَ من زَمَنٍ
ويَلْتَقِي في رِحابِ الحُبِّ مَنْ عانُوا
فلا المساجِدُ تَنْأى عن كنائِسِها
يُجَمِّعُ الكُلَّ في الرّحمنِ إيمانُ
الدّينُ لله والأوطانُ جامِعَةٌ
ولا تُفَرِّقُ بينَ النّاسِ أوطانُ
أبا البقاءِ سلاماً من رُبَى وطني
وفي الإماراتِ أبطالٌ وشُجْعانُ
وفي مُقدِّمَةِ الأبطالِ فارسُنا
بوخالد الشّهْمُ مَنْ يَفديهِ فُرْسانُ
أبناءُ زايِدِنا ما خَيَّبُوا أمَلاً
والشّعبُ خلفهُمُ يَفْدِيكَ لُبنانُ