وفاء العمير
حيث كان يجلس على الأريكة في مقابل التلفزيون القديم، عمر التلفزيون في الحقيقة أكثر من خمس عشرة سنة، تراءى أمامه في الفيلم الذي يشاهده، مشهدا كئيبا، لكنه مثير للتساؤل، كان الممثل يصرخ في وجه البطل الصغير في السن، الذي هو زميله في الصف قائلاً له: «أنت تراني غير مرئي، وأنا أراك غير مرئي أيضا». اشتعل غضب البطل الصغير، واندفع نحوه وهو يزعق بصورة هستيرية: «أنا لست غير مرئي، أنا لست غير مرئي».
مسح المخلل من جوانب فمه بعد أن اقتطع لقمة كبيرة من سندويتش الهمبرغر بالدجاج، وجبة غدائه الجاهزة. وبينما كان يتلمظ تبلور السؤال كسولاً، ولكنه لا يُقاوَم «هل كون المرء غير مرئي هو أمر جيد أم سيئ؟» إنه لا يعرف. شرب من الكوكاكولا عبر الماصة البلاستيكية، ثم تجشأ مستمتعاً. رأى بشكل حازم أنه ما كان يجدر به التفكير في هذا السؤال، فما بالك بطرحه؟ إنه يعيش مرتاحا هكذا، يعيش بطريقته الخاصة، مخفيا عن عيون البشر الفضولية المحدقة، بعيداً عن عاطفتهم المتناقضة المتأرجحة السطحية، ولكن ها هو يؤكد دون وعي منه، على انخراطه في هذا الأمر حتى النخاع، الذي يجهل ما إذا كان جيدا أم سيئا، ولكن ذلك من دون معنى كما تبدى له. ما المشكلة لو أنه بلا وجود لدى اعتبارات الناس، وأن مكانه خالٍ في ذاكرتهم؟ هل يبدو ذلك أمرا موحشا، مُسبّبا له الإحباط مثلا؟ ما الذي يمكن أن يجعله يصعد في أعين الناس، أن يروه عبر شاشة كبيرة جدا، ويقيّموه تقييما رائعا؟ لابد أنه المنصب، الوظيفة المرموقة التي يفتقر إليها تماما، لابد أن الأمر كذلك، المال الوفير، والمكانة العالية. هل يريد حقا أن يتجوّل في حقول أفكارهم وصحاريها المقفرة؟ أن يقدموا له ولاءهم كاملا لا ينقص منه شيء، لكي يشعر أنه واثق من نفسه، وله الحق في العيش؟ تراكمت تلك الأسئلة بينما يخرج من منزله المتواضع، في الحي المتواضع، راكبا دراجته الهوائية المتواضعة، وذاهبا إلى، إلى أين هو ذاهب يا ترى؟ إنه ذاهب إلى لا مكان. أجاب نفسه بينما تهادت دراجته شاقا بها الطريق بين المارة، في هذه الظهيرة الشديدة الحرارة. إنه ما يزال في الثلاثين من عمره، شاب، وسيم، باستطاعته أن يسلب لب الفتيات لو أراد ذلك. ضحك ساخراً بينما يتشبث بمقود الدراجة، محاولاً السيطرة عليها، يا لها من حماقة مفرطة تلك التي يتمتع بها، شاب بلا عمل، ولا عائلة، ولا مستقبل، لا يدري كيف له أن يبدي تفاؤلا كهذا؟ هل عليه أن يعيد طرح السؤال من جديد؟ إنه بالتأكيد غير مرئي، وما الذي يجعله سوى ذلك؟ هل هي الأوقات الطويلة التي يقضيها في الثرثرة بكلام فارغ على مواقع التواصل الاجتماعي حتى ليبدو وكأنه عبارة عن فم كبير يبصق الهراء؟ أم تبطّله طوال اليوم بلا عمل حقيقي؟ يا له من بائس، ما زال يحمل قلبا ينبض، ويحلم أيضا. توقف عند إشارة المرور الحمراء، وعندما ومضت الإشارة بالأخضر تقدم نحو الأمام، عابرا الشارع العريض المحتشد بالسيارات، وباعيون المتلفتة هنا وهناك، وبالأدمغة المشغولة دوما بالأفكار، أفكار كثيرة تنتشر في سمائها حتى تغطيها بالكامل. أليس مثلهم أيضا؟ هل هم مرئيون لأنفسهم قبل أن يكونوا مرئيين لغيرهم؟ هل يستحقون حقا أن يكترث لكونه غير مرئي بالنسبة لهم؟ هل ذلك مهم بالفعل؟ يتوقف عند مقهى على جانب الطريق، ويركن دراجته كيفما كان، يعرف أن لا أحد يريد سرقتها، فهي دراجة قديمة مقرفة، كل ما فيها متهالك كصاحبها. يدلف إلى المقهى، يأخذ مقعده المعتاد في الزاوية البعيدة، ويطلب شايه المعتاد. يتطلع عبر النافذة، إلى جموع السيارات، وإلى جموع الناس، وإلى العالم برمّته. ينظر، ثم يغمض عينيه، ويعود بظهره إلى الكرسي، بينما بخار الشاي الساخن على الطاولة أمامه يرتفع مشكلا سحابة من الدخان.