د.محمد مسلم الحسيني
في العقود الماضية شهد العالم ظاهرة واضحة في حركة الفايروسات وعملية تطورها وقابلية تحورها وعنف مهاجمتها للإنسان والحيوان على حد سواء وفي سائر بقاع العالم. ظهرت فايروسات جديدة مثيرة للانتباه لم نكن نعرفها أو نسمع عنها من قبل، تدعو للترقب والحذر، بدأت هذه الفايروسات معاركها مع الإنسان خلال هذه الحقبة الزمنية القصيرة نسبياً مبتدئة بمتلازمة نقص المناعة المكتسبة المسمّاة بالـ»الإيدز» التي هاجم الفايروس فيها الجهاز المناعي للإنسان وأربكه. أعقب ذلك وباءات أخرى هاجمت الفايروسات فيها الجهاز التنفسي للإنسان، كما في وباء إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة «سارس» ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية «ميرس» وأخيرًا وليس آخرًا ظهر فايروس كورونا الجديد «كوفيد19» الذي حاز على القدح المعلّى في الأذى والتدمير.
لم يكتف كوفيد19 بفعله المباشر لوحده فحسب بل أنجب سلالات متحورة جديدة أخرى هاجمت الإنسان كان أهمها من حيث سرعة الانتشار أو شدة المرض: السلالة المتحورة البريطانية والمتحورة البرازيلية وسلالة جنوب أفريقيا ومتحورة كاليفورنيا وأخيرًا وليس آخرا سلالة «بريستول» البريطانية المتمردة الجديدة! كما ظهرت فايروسات أخرى من قبل في دول من العالم ضربت أجهزة أخرى في جسم الإنسان مثل فايروس «زيكا» الذي أدى إلى إحداث تشوهات خلقية عند الأطفال بعد إصابة أمهاتهم أثناء الحمل بمرض الـ»زيكا»، وكذلك فايروس «إيبولا» الخطير الذي سبب مرض «إيبولا» القاتل عند البشر. هذا التسارع في خلق الفايروسات الجديدة يجعلنا في وقفة تأمل وتساؤل وبحث حول ماهية هذا الخطر وماهية سبل التصدي له وكيفية التكيّف والتصرف إزاء هذه الأخطار التي أصبحت واقعا حيّا تعيشه البشرية جمعاء!.
منذ أن أعلن «كوفيد19» عن نفسه وعن حربه العالمية الثالثة على بلدان المعمورة ولحد هذه الساعة، تكشفت أمور وحقائق تمخضت عنها دروس وعبر لا يمكن أن نغض النظر عنها أو نتناساها بأي حال من الأحوال. أمران هامان يجب الوقوف عندهما والتمحص في أهميتهما إذ يعتبران من أولويات الدروس المستنبطة من خبرة هذا الوباء العالمي الذي فاجأ عالمنا غير المتحسب له وهما: ماهيّة «الثقافة الصحية» في المجتمع المبنية على الأسس العلمية والإرشادات المعروفة والمخصصة للتصدي للوباءات، و»البنية الصحيّة» التخصصيّة المتوفرة المتمثلة بمراكز البحوث والمختبرات التي تواكب حركة الفايروسات وترصد نهجها من جهة وتعمل على إيجاد الوسائل الناجعة للتصدي لها والقضاء أو السيطرة عليها من جهة أخرى.
الثقافة الصحيّة الناجعة تعتبر محور التصدي الأول الرئيس للوباءات الفايروسية بما تحمله من أصول في سبل الوقاية وطرق تجنب العدوى من المرض، لحين صنع وتوفر اللقاح المناسب للفايروس. يقع الجزء الأكبر من مهام نشر الثقافة الصحية الصحيحة على عاتق الدولة ومؤسساتها الصحية وعلى وسائل الإعلام بكل صنوفها المرئية والمسموعة والمقرية التي يتوجب عليها بث برامج التوعية الصحية للناس والتصدي للافتراءات التي تشيع بينهم.
المواطن بشكل عام يطمئن بوسائل إعلامه وبما تقوله وتنشره بشكل عام، فدورها مطلوب لكي لا تبقى وسائل التواصل الاجتماعي وحدها الناطق الرسمي في الساحة التي قد تربك رؤى الناس في دعايات مضللة تبث أخبارا غير صادقة عن حقيقة الوباء وحيثياته.
منذ الإعلان عن الوباء الجديد «كوفيد19» ظهرت حملات إعلامية مضللة شككت في طبيعة هذا الفايروس وفي خصاله وخصائصه وطرق انتقاله وسبل علاجه وكيفية تجنبه. لم يقف بوجه هذه الضلالات في عالمنا العربي إلا القليل من المقالات غير الكافية التي نشرت هنا وهناك حاولت تصحيح أخطاء الدعايات المغرضة وغير الصحيحة وتفنيد ما جاء فيها. هذا الإعلام المضلل يشبه إلى حد كبير الإعلام الحربي المستخدم في الحروب والغرض منه تضليل العدو من أجل التشويش عليه وحرف اتجاه انتباهه عن حقيقة سير العمليات لغرض استخدام عنصر المفاجأة من أجل الفتك والتدمير. تماما بنفس هذه الصورة وبنفس المسار حصلت المباغتة واستشرى الوباء في بلداننا العربية وغيرها.
على هذا الأساس ومن هذا المنطلق فإن من أهم الخطوات التي يجب اتخاذها منذ بداية تفشي الوباءات هو تحصين المجتمعات بالثقافة الصحيّة الصحيحة المبنية على فهم طبيعة الوباء وطرق تجنبه ومنع توارد الافتراءات المضللة حوله من خلال دراسات متخصصة يطلع عليها المسؤولون الصحيون وتعمم من خلال إعلام مركز يبث المعلومة الصحيحة ويركز على تفنيد الضلالة والخبر الكاذب كي لا تتأثر أفكار المواطنين بدعايات مغرضة غرضها سيئ وغير حميد.
الأوبئة الفايروسية ليست كالأوبئة الجرثومية الناتجة عن البكتريا، فالفايروسات لا تتأثر بالمضادات الحيوية كما تتأثر بها البكتريا كونها كائنات ميتة غير حيّة، وهكذا لا يتوفر علاج سحري للفايروسات يستطيع إزالتها من جسم الإنسان غير تجنبها ووقف العدوى الحاصلة بها من خلال الوقاية منها لحين توفر اللقاح المناسب لها.
تعتمد وسائل الوقاية المخصصة لتجنب العدوى بالفايروسات على طبيعة الفايروس وعلى وسائل انتقاله، فمن الفايروسات ما ينتقل عن طريق التنفس ومنها ما ينتقل عن طريق اللمس والاحتكاك المباشر بالمصاب أو عن طريق التغذية أو الحقن وبسوائل الجسم وأثناء الحمل أو بالاتصال الجنسي أو غيرها.
اتباع إجراءات التوقي من الوباء خصوصا في بداية مراحله مهمة جدا لمنع انتشار الوباء لحين اكتشاف اللقاح المخصص له وإجراء التطعيم. من هنا تنطلق أهمية الخطوة الأولى الهامة المعتمدة على التثقيف الصحي ونشر المعلومة الصحيحة وتشجيع المجتمع على اتباع الوصايا الصحية المطلوبة. ضلالات كوفيد19 لم يقتصر نشرها بوسائل التواصل الإجتماعي فحسب، بل وردت على ألسنة بعض قادة الدول وعلى لسان مسؤولي الصحة فيها الذين استهانوا بخطر الوباء وقللوا من شأنه، حيث وصفوا الوباء منذ البداية بأنه خدعة أو أنه مجرد إنفلونزا بسيطة! مما ضاعف في دور الإعلام لتغيير رؤى الناس ومفاهيمهم حول الحقيقة. شككوا في حقيقة أصل وجود الفايروس وشككوا في فعالية الكمامات وجدواها في منع انتشار الوباء. وردت المغالطات أيضا في علاج هذا الوباء ومضاعفاته، فكم من الدول أعلنت افتراءً على لسان مسؤوليها عن اكتشافها للدواء الناجع أو اللقاح الأكيد لهذا الوباء منذ البداية، ثم بثوا توصياتهم في علاجات غير مؤثرة بل مؤذية لصحة الإنسان كأدوية «الكلوروكوين والهايدروكسي كلوروكوين» وكذلك المضاد الحيوي المسمّى الـ»الأزيثرومايسين» الذي يعطيه معظم الأطباء المعالجين في بعض بلداننا العربية لمرضاهم جزافا! دون الأخذ برأي أهل الاختصاص الذين ناقضوا ذلك مرارا. كم من الدعايات الكاذبة وقفت بوجه اللقاح الحقيقي والأكيد بعد إنتاجه والإعلان عنه فحذرت منه ومن مخاطره الوهمية، مما خلق هذا الأمر شكوكا في نفوس البشر حيث إن حوالي نصف أبناء المعمورة متخوفون من التطعيم بل يرفضونه في بعض الأحيان بعد أن زرع الخوف في نفوسهم حينما زعموا أن هذه اللقاحات تؤدي إلى تشويهات جينية وتحوي مواد تجسسية وعلى عناصر معدنية وتؤدي إلى مضاعفات وآثار جانبية مميتة!.
الخطوة المهمة الثانية للتصدي لمحنة الوباءات الفايروسية هو الإسراع بنقل التقنية الكافية اللازمة لإجراء البحوث والدراسات التحضيرية وبناء المختبرات لتوفير متطلبات المرحلة المبنية على أدوات التشخيص وصناعة الأمصال والعلاجات التي تفي بالغرض المطلوب وبما تقتضيه المرحلة. لقد حان الوقت لبناء أسس وقواعد التصدي في بلداننا العربية تقينا شر هذه التقلبات الحاصلة في خصائص الفايروسات وطبائعها. يتوفر، على الأقل في بعض بلداننا العربية، الكادر المتخصص والقدرات المادية والتقنية، لبناء مركز متخصص ومختبر ضخم للبحوث الفايروسية يفي بمتطلبات المرحلة ويستبق الزمن لينجز ما يجب إنجازه كي لا نبقى دائماً تحت رحمة الآخرين وتفضلهم. في ظل المستجدات الواردة التي بينت وجود تسارع ملحوظ في عملية تحورات فايروس كوفيد19 ونشوء سلالات جديدة تختلف في بنيتها الجينية عن الصيغة الجينية الأم، فهذا يأخذنا إلى الحد الذي يجعلنا نتوقع أن هذه السلالات الجديدة إن استمرت في النشوء فستفلت من قبضة اللقاحات المطروحة الآن.طبقاً لتوارد هذه الحقائق فإنه من المتوقع أن يبقى تهديد الفايروسات قائما طالما استمرت عملية التحور الفايروسي مستمرة وقائمة، وهذا يعني أنه يجب التعايش مع هذه المرحلة الجديدة من التطورات التي تستوجب الأهبة والاستعداد في حراسة المجتمعات من عدو متربص يهاجم بأساليب وصور مختلفة. لا أعتقد «شخصيّا» أن وباء كوفيد19 وباء عابر أو زائر وسوف يلملم أمتعته للرحيل قريبا، بل إن احتمال بقائه مقيما بيننا لأجل غير مسمّى وارد جداً! طبقا لهذه الرؤية المخيفة فإنه يتوجب علينا التعامل المباشر مع المستجدات بأنفسنا وأن لا نبقى معتمدين على الغير بتزويدنا بما يتفضلون به علينا في آخر المطاف. حتى إن رحل كوفيد التاسع عشر وسلالاته المستجدة عنا اليوم، فمن يضمن الاّ يأتي غدا كوفيد آخر برقم آخر وبوجه آخر!.
** **
أخصائي علم الأمراض - بروكس