عبدالسلام العزوزي
تعتبر الميديا (Media) بمثابة البوصلة الإعلامية التفاعلية المحددة للهوية المجتمعية ولمستوى طفرة القوة الناعمة التي تعد بالأساس الناقلة عبر رسالتها الإعلامية للهوية الثقافية والحضارية للمجتمع، والمتحكمة بشكل أو بآخر في تفاعله مع مجرى الأحداث وفي أسلوب تطور هذا المجتمع أو ذاك، والتي لن تكون سوى ثقافته المادية والشفهية النابضة بالحيوية والتجدد الراسمة لآفاق تطلعاته وهواجسه وآماله. ويكون الإعلام من خلال ثورته التكنولوجية الحديثة والمتجددة هو الموجه لكل التطلعات والآمال والصانع لهذه الثقافة وتوجيهها وتجديدها أيضا من خلال التفاعل القوي والمتواصل لوسائط التواصل الاجتماعي التي فتحت العالم كقرية صغيرة تتجاذب فيها الأفكار وتبتكر فيها التطلعات والأحلام وتتحاور فيها البشرية بكل حرية انطلاقاً من معتقدات وقناعات وأمكنة متنوعة ومتعددة ومتباعدة عن بعضها البعض في التصورات والرؤى أحياناً.
وهو ما عَوْلم الإعلام الذي قرب الثقافات ويتجه بقوة إلى تفعيل تلاقحها وتجاذبها الآخذ في التكامل أحيانا وأحيانا أخرى في التنافر حد التناحر بفعل ضغط الفكر التطرفي والعنصري الميال إلى إشعال النعرات والصراعات التي تنتهي غالبا إلى إشعال فتيل الحروب التي تدمر كل هذا الفسيفساء الثقافي المتنوع والأخاذ الذي يضفي عليه التجاذب الإعلامي/ الثقافي البناء مزيداً من البهاء والأمان ونشر قيم الايخاء والسلام فيما بين الشعوب.
تعريف الإعلام الجديد والميديا
الإعلام الجديد أصبح إعلاماً بديلاً في عصرنا الحاضر، عوض الصحافة أو ما يصطلح عليه بالإعلام التقليدي، ونظرا لأن الصحافة علم وفن، فقد لاحظنا أن الانتقال من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد، قد تم بشكل سلس دون المساس بقيمة أو أهمية الصحافة الورقية التي حافظت على كينونتها وضرورتها أحيانا، والتي انتقلت في البداية إلى الصحافة الالكترونية وبعدها مباشرة من حيث الزمان إلى الإعلام الرقمي، لتفتح الثورة التكنولوجية شهية الإعلام الشبكي، أو الميديا (Media).
إذن، فتعريف الإعلام له عدة أوصاف ومصطلحات تتشكل وفق الدور المنوط بهذا الإعلام الجديد، ويذهب «ليستر» Lester إلى القول «بأن الإعلام الجديد هو مجموعة تكنولوجيات الاتصال التي تولدت من تزاوج بين الكمبيوتر والوسائل التقليدية للإعلام». ويعرف «عبد القادر بن خالد» «بأن الإعلام الجديد أو الإعلام الالكتروني هو المعلومات والوسائط التي تنتقل إلكترونيا باستعمال الأنترنت أو إحدى خدماته».
وبالتالي فإن عناصر وتطبيقات هذا الإعلام الجديد أو الميديا هو المدونات، والشبكات الاجتماعية (الفايس بوك وتويتر...الخ)، ومواقع الدردشة الجماعية (الواتساب،الميسنجر..الخ)، والصور والفيديو مثل اليوتيوب والصحافة الالكترونية ومواقع الفضائيات التلفزية.
وبهذا الانفتاح الكبير، لم تعد المعلومة حكرا على المؤسسات الصحافية والإعلامية فقط، بل صار المواطن ليس مشاركا فقط، وإنما اصبح أيضا صاحب المعلومة، وهو ما يصطلح عليه بـ»المواطن الصحفي» أو (صحافة المواطن)، بالنظر إلى ما وفرته له الميديا من فضاء حر لنشر المعلومة من خلال الوسائط المتعددة التي تجمع ما بين المكتوب والصوت والصورة والفيديو.
وتؤكد الموجة الرقمية التي تشهدها المجتمعات المعاصرة، صدق تنبؤات «مارشال ماكلوهان» الذي أكدت نظرته المستقبلية بضرورة وجود وسائل الاتصال في الحياة اليومية من خلال التدفق المعلوماتي، وصارت المجتمعات الحالية توصف بمجتمعات المعلومات.
الثقافة ومفاهيمها
الثقافة كلمة شمولية، فالثقافة حاضرة، في القيم، وفي العادات، وفي التقاليد، وفي اللغة، وفي الأفكار. فالأكل ثقافة، والاقتصاد ثقافة، والفن ثقافة، والأدب ثقافة. والعيش المشترك ثقافة. ذلك أن الثقافة هي كل ما يمت للإنسان والحياة بصلة، وكلمة ثقافة تعني كل ما يضيء العقل، ويهذب الذوق، وينمي موهبة النقد. فيما يعرفها أحد علمائها الكبار كليفورد كيرتز على «أنها نظام تراتبي من المعاني والرموز المتوارثة تاريخيا. هي مجموعة الأدوات الرمزية المتحكمة بالسلوك. يعرف من خلالها الأفراد عالمهم ويعبرون عن مشاعرهم ويصدرون عبرها أحكامهم».
ويشير جمال نصار إلى أن الطريقة التي يتعامل بها الأميركيون اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً تثير تساؤلات الناس في العالم أجمع. وقلة منهم تدرك أن الثقافة الأميركية ليست سوى صدى لما يزخر به الإعلام الأميركي من أطروحات، تؤدي في النهاية إلى تكوين رأس مال ثقافي. فكما أن هناك رأس مال اقتصادي برأي «كارل ماركس»، فهنالك رأس مال ثقافي، كما يقول «بورديو». والرأس المال الثقافي في النهاية يتحول إلى رأس مال اقتصادي.
الإعلام وصناعة الثقافة
يعتبر الإعلام المرآة العاكسة لثقافة الشعوب والأمم، والبوصلة الأساس لتوجيه وتسويق المُنتَج الثقافي المادي واللامادي، ويعتبر أيضاً، العامل المؤثر في الفعل الثقافي، إن سلبا أو إيجابا. وبذلك يلعب الإعلام دورا كبيرا ومهما في صناعة الثقافة وتجويدها من خلال إبرازها كمُنتَج مرتبط بالإنسان وبالحياة كون الثقافة تنتج تعابير قوية من خلال سلوك الإنسان وظروف بيئته.
وعلى هذا الأساس يبقى تجديد وتطوير والسمو بالفعل الثقافي مرتبط ارتباطاً عضوياً بسمو رسالة الإعلام ونبل قيمه وبعد حكمته في التعاطي مع الموروث الثقافي، تصنيعا، وتجويدا، وتسويقا من أجل أن يحلق عبر وسائط التواصل المتعددة والمتنوعة التي تزخر بها الشبكة العنكبوتية، والتي حولت الكون إلى قرية واحدة تتلاقح فيها ومن خلالها الأفكار، وتتناغم فيها الآراء، وتتمازج فيها أحيانا الثقافات على حد تباعدها وتباينها في الشكل كما في المضمون وفي خصوصية الشعوب التي تفتخر بتقاليدها وثقافاتها.
تلعب وسائل الإعلام دوراً كبيراً في صناعة الرأي العام، وكذلك في التأثير في صناع القرار، وهو الأمر الذي قد يؤثر إيجاباً أو سلباً في صناعة الثقافة التي تجد موقعها الطبيعي في بيئة المجتمع المتطور الحي واليقظ والمتتبع والمتفاعل مع الأحداث التي تنشط حياته وتدفع بها إلى التدافع من أجل الإبداع والابتكار، وبالتالي صناعة المُنتَج الثقافي، كما تدفع بهذا المجتمع الحي إلى التدافع من أجل أن يكون المنتج الإعلامي، قويا ومميزا وأكثر مهنية واحترافا في احترام تام لضمير المهنة ولنبلها ونبل رسالة الثقافة التي يعتبرها الكثير أنها معيار تقدم أو تأخر الشعوب والأمم.
وبالقدر الذي يزداد دور الإعلام وأهميته في المجتمع المعاصر، بالنظر إلى ما يمارسه من تأثير، بالقدر الذي يثقل كاهله بمسؤولية جسيمة، إن لم نقل فيها قدر كبير من المخاطرة، نظرا لخطورة تأثير وسائل الإعلام المعاصرة المتعددة في ظل هذه الثورة التكنولوجية التي تمارس سيادتها على المجتمع وعلى الحكومات، ما جعل الإعلام يشغل الحيز الأكبر من الاهتمام العالمي أفراداً وحكومات وشعوباً. وهو ما يؤكده «تروبين كروق» «Troben krogh»، «أن المجتمعات المعاصرة تعيش اليوم ثورة اتصالات واضحة نتيجة للتطورات في مجال الاتصالات والكومبيوتر مع التوسع الكبير في وسائل الاتصال الجماهيري».
ولأن وسائل الإعلام قربت بين الناس المسافات، وفتحت العالم كله أمام المرء وهو جالس في بيته يتجول عبر مدن العالم وبحارها وجبالها ويتعرف على حضاراتها وثقافاتها، ويتعارف مع ناسها بمختلف أجناسهم وعقائدهم وتقاليدهم وتراثهم في ظل هذه العولمة الإعلامية التي يقول عنها رائد علوم الاتصال «ماك لوهان»: «إنّ عولمة الإعلام عن طريق وسائل الاتصال والتواصل جعلت من الكرة الأرضية قرية صغيرة، وأصبح الإنسان يحيا في فضاء عالمي بلا حدود. يعيش لحظات أفراحهم وأتراحهم لحظة وقوعها ويشاهد بعينه كل يوم صورة واضحة المعالم والقسمات عن نظيره في كل مكان».
وبذلك، يكون دور الانترنيت أساسياً في العولمة الإعلامية، حيث جعل تطور الهواتف الذكية الإنسان أسير هذه الثورة التكنولوجية العالمية التي تسيطر على توجيهها شركات الاتصال والتواصل العالمية، ما يدفع بها إلى أن تتحكم في مصير الشعوب، كما يمكنها من أن تتحكم في مصير دول بأكملها، وتوجه عن بعد اقتصادها وثقافتها، لتستحسن الأجود بالنسبة لها، وتقصي ما تراه غير مناسب لها.
ويعتبر الإعلام واجهة ضرورية للثقافة وقاطرة مهمة لها،وأيضا حاضنها والساهر على تنميتها، وإلا ما كان لهذه الثقافات المتعددة والمتنوعة أن تنتشر وتنمو وتزدهر. فبالقدر الذي يتطور فيه الإعلام، بالقدر الذي يمكن للثقافة أن تتطور، لأن تطور الاعلام رهين هذا الثراء التكنولوجي المتجدد الذي يفسح المجال أكثر أمام التنوع الثقافي والحضاري، حيث يربط الإعلام ثقافة المجتمع بإحتياجاته وتطلعاته وتحدياته وأسلوب عيشه، لذلك لا يمكن لأحد أن يؤثر في الآخر إلا بعد التلاقي وتبادل الأفكار والآراء عبر وسائط التواصل مثل غرف الدردشة والفضاءات الوسائطية المتعددة، ما يدفعنا إلى القول بأن الإعلام أصبح يلعب دورا رياديا في تربية النشء بعد الأسرة ويسهر أيضا على بناء ثقافته وشخصيته، لكونه أصبح المتحكم الأساس في مسار المجتمع، وهو ما يطرح بإلحاح مخاطر هذه التنشئة الرقمية التي تسيطر عليها جاذبية الصورة والصوت والحركة، خصوصا في غياب مراقبة الأسرة وتوجيهها للطفل لأجل تتبع البرامج التربوية الهادفة التي تفيده في دراسته وفي مستقبله.
وبعد أن عرفت وسائل الإعلام المكتوبة، كالجرائد والمجلات، تطورا كبيرا مع تطور وسائل الطباعة والنشر، حيث كان لها تأثير كبير على صيرورة المجتمعات وتطورها في التواصل وفي الإبداع أيضا، إبان ظهور الطباعة التي شجعت على نشر الجرائد والمجلات والكتب، والتي كان قد اخترعها «غولد سميث يوهان غوتنبرغ» في ألمانيا نحو عام 1440، حيث أشعلت أنذاك ثورة غير مسبوقة في عالم الطباعة والنشر. وكان للصحافة الورقية آنذاك الأثر الكبير في توجيه المجتمع وفي تيسير الوصول إلى المعلومة السليمة التي تعتبر الجرائد أو المجلات مصدرا لها ومرجعا ضامنا لصحتها ولمصداقيتها.
وهذا التطور في التواصل عن طريق الصحف والتليكس والهاتف والفاكس، والتلفزيون، دفع بالفكر البشري إلى مزيد من البحث الحثيث على وسائل أخرى أكثر سرعة في التواصل وفي نقل الخبر وإشاعته بين الناس، ليس في مكان واحد، وإنما في كل الأمكنة والأزمنة.
الإعلام وعولمة الثقافة
وهكذا ظهرت وسائل الإعلام الحديثة، الالكترونية والرقمية، ما يسر من تطور أكثر في التواصل الثقافي وسرع منه، وذلك بالنظر إلى التسهيلات التي أتاحتها شبكة الإنترنت نحو إمكانية الوصول لأي نوع من المعلومات في أي مكان وفي أي زمان، حيث وفرت هذه التقنية التواصلية الحديثة الوقت، والجهد، والتكلفة في الوصول إلى المعلومة، واستثمرها الأدباء والمفكرون والباحثون والمثقفون عموما في خلق فضاءات للتواصل المباشر والمفتوح للعموم، وغرف للدردشة الخاصة، ما سهل من تبادل الأفكار وتلاقحها وتدافعها وتنافسها والاطلاع على ثقافات أخرى كان الإنسان يجهلها بحكم بعد المسافة وانعدام وجود آلية للتواصل والتعرف مباشرة على ما يجري في باقي الكرة الأرضية، إلا من خلال الكتب أو من خلال وسائل التواصل السلكي واللاسلكي كما سبق أن ذكرت أعلاه.
إن الثورة التكنولوجية المقتحمة لكل المجتمعات البشرية الغازية حتى لخصوصياتها، أصبحت هي المعول عليها في عصرنا الحاضر في أن تلعب دورا طلائعيا في نقل المعلومة بأسرع ما يتخيله إنسان الألفية الثالثة الذي بات سليب الإرادة أمام هذا الكشكول من آليات التواصل المعلوماتي، ما أركن وسائل الإعلام التقليدية جانبا لتتراجع معها الثقافات التقليدية في القراءة وارتياد المكتبات والمتابعة ونقل المعلومة التي كانت تتطلب جهدا فكريا وجهدا زمنيا كبيرا حتى نهاية القرن العشرين.
ومع هذه الطفرة التكنولوجية بات الاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية خيارا استراتيجيا وتنمويا يسهم بدوره إلى جانب الصناعات الأخرى في الناتج الداخلي الخام بنسب دالة، وهو ما تفطنت له العديد من الدول، التي جعلت من أشكال التعبير الثقافي مجالا لتنافس اقتصاد حقيقي تفوق حركيته وديناميكيته أحيانا سائر القطاعات الإنتاجية الكلاسيكية، خصوصا في ظل هذا التطور الفكري والتواصلي السريع الذي يدفع باتجاه عولمة الثقافة وترسيخها كحق من حقوق البشرية بالرغم من الاختلافات الثقافية والعقائدية والفكرية والخصوصية المجتمعية التي تتباين من مجتمع إلى آخر.
إن الاستثمار في الثقافة من خلال الاهتمام بها ورعايتها لأجل تطويرها وجعلها ضمن استراتيجية النمو والتقدم، أصبح ضرورة تفرض جديتها وقوتها في إبراز قوة الأمم والمجتمعات، وإظهار حنكة الدول وبراعتها في الاهتمام بكل ما هو ثقافي مادي وشفهي، والقوة في عصرنا الحاضر والمستقبل هو من يمتلك مفاتيح تطوير الاستثمار في الثقافة من أجل عولمتها والتأثير بها في باقي المجتمعات، وبالتالي فرض شروط التفاوض وابراز معاني قوة الدولة وهيمنتها. يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، ولذلك فالتأثير على الآخر، مهما تطورت وسائل الإعلام، لن يتم بالشكل المطلوب إن لم تفرض ثقافتك قوة تأثيرها على باقي المجتمعات من خلال تنوع الإبداعات والتعابير الثقافية التي تزخر به هذه الأمة أو تلك، فالرسم والكاركاتير والرسوم المتحركة والسينما والمسرح والتلفزيون والمهرجانات والملتقيات والندوات والآثار والموسيقى والغناء والتقاليد الأصيلة، هذه كلها تشكل رزنامة قوية وجاذبة للآخر ومؤثرة فيه أيضا. وقديماً كنا نقرأ أن «من ينتصر يكتب التاريخ»، لكن اليوم يصح القول بأن «من ينتصر هو من تتحكم ثقافته في العالم»، حيث يسهل اختراقه من خلال هذه الثورة التكنولوجية والفضاءات الاعلامية المفتوحة أمام الجميع، التي لن يصمد في ظل تجاذبها وقوة تأثيرها في المجتمعات والدول إلا من استطاع تحصين ثقافته وتسويقها للتأثير بها في باقي المجتمعات وبالتالي فرضها كبديل أو كمكمل لباقي الثقافات المحلية أو القارية، ما يفتح له باب السيطرة على عولمة ثقافته وتمكينها من الرسوخ كونيا وتجذيرها كإحدى البنيات الأساس للعيش المشترك ولتقاسم الأمن والسلام، وبالتالي تمكن عولمة هذه الثقافة من نمو الاقتصاد، وازدهار الدولة صاحبة الريادة الثقافية المُعوْلمة، وتمكينها من التحكم في باقي الدول، عوض ما كان معمولاً به في السابق من اعتبار القوة العسكرية والاقتصادية، الطريقة الحاسمة في إخضاع الآخر، فإننا اليوم نواجه تغيراً جذرياً في طريقة إدارة صراع الثقافات وليس صراع الحضارات، لأن هناك تعدد الثقافات وليس تعدد الحضارات، انطلاقاً من أن هناك حضارة واحدة فقط تشعبت منها ثقافات وليس حضارات.
فالتجارب السابقة في السيطرة على العالم، باستعمال قوة السلاح، لم تؤت أكلها ولم تعط نتائج مرضية بقدر ما خلفت جروحاً عميقة في نفوس البشرية، خصوصاً تلك التي عاشت حروباً طاحنة، وتركت ندوباً في العلاقات الانسانية والدولية حتى ولو مضى زمن طويل عن الاحتلال، لأنها تصبح ثقافة جارحة ومؤثرة في نفسية الفرد والمجتمع المحتل، تنتقل من جيل إلى جيل آخر، ولذلك تجد العديد من الدول تطالب الحكومات الحالية لهذه الدول التي استعمرتها سلفا بالاعتذار أو تقديم تعويضات للشعوب التي تعرض أجدادها أو آباؤها للتنكيل والتعذيب خلال فترة الاستعمار بقوة السلاح وقوة الجيش.
وهكذا بدأت تفكر الدول العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت لغتها الإنجليزية كلغة العصر والابتكار والتكنولوجيا وشرعت في استخدام شركاتها العابرة للقارات ووسائل إعلامها باعتبارها القوة الناعمة للترويج ليس فقط لمنتوجها الغذائي أو الصناعي وإنما لترويج احتياجات الأشخاص الذاتية تمريرا لثقافة أمريكا، من أجل تحقيق الامبريالية الثقافية.
يرى الباحث عبدالله أبوراشد «أن العولمة الثقافية هي محاولة مجتمع ما تعميم نموذجه الثقافي على المجتمعات الأخرى، وذلك من خلال التأثير على المفاهيم الحضارية والقيم الثقافية والأنماط السلوكية لأفراد هذه المجتمعات بوسائل سياسية واقتصادية وثقافية وتقنية متعددة من خلال دينامية الاختراق الثقافي واستعمار العقول واحتواء الخبراء وربط المثقفين بدائرة محدودة ينشدون إليها بصورة بعيدة عن إعمال العقل التفاعلي للذات وإبقاءه في سياق الوظيفة التيسيرية المحضة».
وانطلاقا من هذا الرأي يبدو طرح أسئلة حول، هل هي عولمة ثقافية أم اختراق ثقافي، أم تغريب ثقافي؟ تدفعنا إلى البحث في تفاصيل هذه العولمة الثقافية وآليات اشتغالها وكيفية تسويقها ومدى آثارها على المجتمع المتلقي.. ذلك أن الترويج لثقافة ما عبر وسائل الإعلام تبدو للوهلة الولى أنها غير نافذة وليست بالأسلوب الفعال في التركيز والترسيخ، وإنما لابد من أن تقدم هذه الثقافة في أساليب متنوعة ومتعددة تجذب إليها المتلقي أو المستهلك، ولن تكون أفضل وسيلة من استعمال جاذبية الإحساس وحاجيات الناس، لذلك سخرت الدول العظمى كبريات شركاتها بماركاتها البراقة والباذخة وأكلاتها الشهيرة التي تسيل لعاب المستهلك لتقديم وجبات أو ألبسة الموضة المعاصرة مصحوبة برزنامة سلوكية لثقافة معينة، لا تشعرك باقتحامها فضاءاتك العامة والخاصة حتى تجد نفسك أن تنسل من تحت جلبابك الأصلي لترتدي لباس الموضة العصري بحمولته الفكرية والثقافية بما تجر من ورائها من تقاليد وخصوصيات هذه الثقافة أو تلك. وهذه هي الحرب القادمة التي تستعمل سلاح الثقافة لغزو الشعوب التي تصبح امتدادا لمستهلكي ثقافتها الأوفياء المولعين بمنتجاتها الاقتصادية المتنوعة والمتطورة والمتجددة المتناغمة مع رغبات وطلبات هؤلاء الزبناء الأوفياء، ما يسهل معه طمس هوية وثقافة هذا المجتمع الوفي للثقافات الوافدة عليه بدون استئذان أحياناً.
الإعلام المغربي وتحديات
عولمة الثقافة المغربية
واليوم وقد استيقظنا على هذا «الشلال الإعلامي» المتنوع والمتعدد المشارب والاتجاهات الذي لا لغة له سوى لغة الصوت والصورة بالسرعة القصوى، ما يفرض أن ننصاع لهذا «الشلال الإعلامي» و»لقيمه التقنية» وأن نضبط عقارب الساعة جيداً لنقلع في رحلة إعلامية صانعة للثقافة ودافعة إلى تسويقها وترسيخها ليس فقط إقليميا وإنما كونيا. وحتى نتمكن من إقلاع جيد لمركبتنا الإعلامية لنعبر بها القارات الخمس محملين بزاد ثقافي قوي، علينا أن نحصن إعلامنا من الثقافة الدخيلة والرخيصة وتفاهة الثقافة، ونكون جيلا من الإعلاميين ضابطين لقواعد مهنة الصحافة ومتشبعين بالقيم الثقافية الوطنية، ومنفتحين على القيم الكونية المثلى.
فصناعة الثقافة تتطلب إعلاما قويا متطورا ومتجددا ومحترفا ينقلها إلى فضاءات كونية في حلة قشيبة جاذبة للناس تستطيع ترسيخ قيم ثقافتنا من خلال آليات كثيرة منها الفنية كالسينما والأفلام التلفزيونية والمسرح والفنون التشكيلية والأغاني والموسيقى والأهازيج الشعبية. مثل تحويل روايات الى أفلام والعاب فيديو وحتى الى حلويات وألبسة تنقل للمستهلك الثقافة التي يجب أن تسهم وسائل إعلامنا في خلقها وترويجها في ظل انفتاح على كل ما هو كوني يحافظ على الأنسنة والأخوة والتحضر وتلاقح الثقافات وتدافعها فيما يخدم البشرية ظل مناخ يعمه الأمن والسلام. فدور الإعلام يكمن في تجسيد ثقافة الاختلاف، وإبراز فلسفة الأبعاد الثقافية الكونية الباحثة عن التلاؤم والتناغم والعيش المشترك.
إن عولمة الثقافة من عولمة الإعلام، بات أمرا حتميا، ولم تعد خيارا قابلا للتبني أو الرفض، ولم يعد أمام البلدان السائرة في طريق النمو إلا اختيار الغوص في كنه هذه العولمة بكل مفرزاتها وضوابط تحكمها، ورفع تحدياتها لمجابهة هذه الماكينة الإعلامية الحاملة لترسانة ثقافية محملة بخصوصيات وتقاليد، وموروث ثقافي/ حضاري يبارك قرارات صناع النظام العالمي الجديد، أو البقاء على حالة النكوص والتخلف والجمود. فالعولمة في نظر هؤلاء هي أقرب السبل وأجداها للتمكين من الحداثة الاجتماعية والسياسية والفكرية للعالم الذي ما يزال يتحسس طريق النمو، والعولمة الاعلامية والثقافية في نظر النظام العالمي الجديد هي أنجع الوسائل لبلوغ التنمية الشاملة التي تعتبر وحدها القادرة على تأهيل العالم المتخلف اقتصادياً، وبالتالي فكرياً واجتماعياً وثقافياً.
** **
مدير نشر صحيفة المنعطف - باحث ومحلل سياسي- المملكة المغربية