أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ما زالت الذاكرة تعود بي إلى زمن مضى من طفولتي في مسقط رأسي (شقراء)؛ حيث ذكريات بيوت الطين، والأزقة الضيقة فألذ ما فيها أن القلب مغمور بالقناعة والرضا والأنس؛ فقد كان للوالد والوالدة رحمهما الله تعالى غرفة (روشن).. (قال أبو عبدالرحمن: المادة فارسية والبادية تقول: (رونش).. ولا أعلم لها وجهاً إلا أن تكون فهماً خاطئاً مما روي أن الرشن الإقامة؛ وإنما المراد إقامة الطفيلي؛ فلعلهم لاحظوا في النوم معنى الإقامة، ولعل لها في الفارسية ما هو أدل على المقصود.. وربما كان المراعي معناها في العبرية؛ وهو التشريف، ومن معاني التشريف التزيين، وهو اللائق بالروشن.. قال (رينهارت دوزي) نقلاً عن كتاب (أصول العبرية) لأبي الوليد مروان بن جناح المعروف بـ(ربى جناح): أن روشن تجمع على رواشن.. ثم نقل عن (هميرت): أن معناها (شرفه).. انظر كتاب (تكملة المعاجم العربية) 5-150 و1-30 و52)، والمجلس للضيوف، وصالة أكل واجتماع للأسرة ونوم لمن بلغ الحلم من الإخوة شتاءً.. ننتظر ذهاب الضيوف؛ فننام تحت الزولية (الشاوية).. (وهي سجادة من الصوف المصبوغ بعضها بالأحمر، ولها أهداب طويلة، ولعلها نسبة إلى الشاة؛ لأن صاحبها في لغة العرب يسمى شاوياً، وفي العراق قوم يدعون الشاوية يجلبون بعض البضائع)؛ فإذا قام الواحد من النوم وجد كل ما في الزولية من تراب (ريغاء).. (قال أبوعبدالرحمن: الريغاء فصيحة؛ وهي التراب الدقيق.. وتكون مراغة إذا داسها النزل كثيراً، والحمار يتمرغ في المراغة الدقيقة؛ فإذا مر حمار آخر ولو بعد يوم تمرغ فيها؛ لأنه عرف أن حماراً قبله تمرغ بها) في آذانه ورأسه.. فإن كان هناك ضيف أو أكثر نام بعض الأسرة في الطريق (ما بين المجلس والروشن)، أو في الحجرة (خلف المشب، وحوض الحطب)؛ وهي خزينة الوالد لأشيائه الخاصة.. والطاية.. (قال أبو عبدالرحمن: الطاية فصيحة؛ وهي السطح الذي ينام عليه، إلا أنها عند العوام الفضاء في الدور الثاني، وأعلى فضاء البناء المحيط بالطاية هو السطح) (ما بين الروشن والطريق والمطبخ والمصابيح) للأكل واجتماع الأسرة في الصيف.. والسطح للنوم في الصيف ليلاً، ولتجفيف الجراد، ولتدفئة الماء في المصخنة، وفيه الدور الثالث للكنيف بعد امتلاء ما تحته في الدورين، ثم يأخذه الفلاحون معقماً بالرماد.. والفقهاء يسمونه السرقين النجس.. والمجبب وصفاف التبن وهي جمع صفه (أي حجرة سفلى) للنوم في الصيف نهاراً..كون فيها تبن، وبعضها يبيض على تبنه الدجاج وترجن؛ لتفرخ.. وبعضها لحفظ التبن ونبات الربيع كالروض، وبأقصى المجبب الجصة لخزانة التمر، وجفرة الدبس والساقي من الجصة إلى الجفرة.. وكل ما تلبسه من أخمصك إلى قدمك لا يساوي خمسة ريالات.. ولكن هناك سعة صدر، وتمام صحة، ومناعة، وشهية للأكل تتجاوز أربع وجبات وإن كان العيش خشناً، وإن كان القمل أسراباً.
قال أبو عبدالرحمن: المشب محل إيقاد النار، وعند الموسرين أكثر من حجرة خارج حجيرة المجلس التي بداخله يجعلون إحداهما مقسمة إلى أحواض بفرش من الحصى المجصص: حوض للتمر، وحوض للبر، وحوض للذرة، ..إلخ.. وفي الروشن عسيب موصل بالحبل إلى وتدين يحفظ عليهما الملابس وتغطى بقماش، ويسمى مصباحاً؛ لأنه يحفظ عليه ثياب الزيارة.. يقال: نحن مصبحين عند آل فلان؛ أي معزومون عندهم على العشاء؛ فنحل عندهم من الصباح.. ويسمى مسطاحاً تسطح عليه الملابس.. وبعض الحجر بها مساطيح للقفر (القديد).. وأما الأزقة فتكحل فيها عينيك، وتطرب سمعك بأشياخ يهللون ويذكرون الله كثيراً، وسحنات وجوههم المباركة تدخل في قلبك البهجة.. وربما دخلت البيت وأكتافك تهتز من الضحك؛ وربما استغرب الأهل ذلك؛ لسماعك نكتة، أو مشاهدتك موقفاً مضحكاً.
قال أبو عبدالرحمن: أما مواقف الطفولة فلا أحصيها؛ وإنما أذكر منها ما تجر إليه المناسبة، ومنها المضحك المفرح، ومنها المحزن المبكي.. وأمضها وفاة أمي رحمها الله تعالى عام 1372 هجرياً، وقيام والدي رحمه الله تعالى بخدمتنا طبخاً وتأديباً وملاحظة وتوقيتاً للدرس في المدرسة وحضور المسجد والقيام لصلاة الفجر؛ فإذا قال المطوع: عمر ابن عقيل، وعبد الله، ومحمد.. قلنا: حاضر.. يؤلمني ذلك؛ لأن أبي رحمه الله تعالى كان فقيراً وحيداً؛ فإذا ضاقت به الدنيا جمع من أثاث البيت، ومما اشتراه من الماقفة (سوق الجلب) ما يجلبه إلى وثيثية، أو ثرمداء، أو أشيقر؛ ليبيعه؛ ولننال تكرمة الأصدقاء ريوقاً وغداءً وعشاء.. ثم يدفع أبي الثمن بعد ذلك ولو بالدين.. وكان يأخذنا معه بعد أن مات أخي عقيل رضيعاً، وبعد أن أخذت عمتي رحمها الله تعالى بروضة سدير أختي لحضانتها؛ فخف الحمل عنه نوعاً ما؛ فنعم الأب رحمة الله عليه رحمةً وقسوةً معاً، وحرصاً، وأنساً.. أذكر بعض مواقفه فأنفجر ضحكاً، وبسمته إلى شدقيه وهو لا يملك شيئاً؛ فإن ضاقت به الحال ذهب إلى الكويت لآل مرشود (ونحن أخوالهم)، وكانوا أثرياء فنفحوه؛ فإذا قدم تحلقنا عند شنطه؛ فهذا رهش (طحينية)، وهذه شابورة، وهذه صفارة للعب، وهذه ملابس، وهذه دريهمات ينفق منها ويستملس ظهره رحمه الله عن العمل.. وأحياناً يشتري هدية مثل جنب ناقة، وحب قرع مصبوغ بالأحمر والأزرق والأخضر؛ فنذهب به على حمار؛ ليهديه على ثري كريم كالعناقر في ثرمداء وآل سويدان بوثيثية، ثم يعود بدريهمات، وأحياناً نذهب إلى (وشيقر) وقت الرطب (المقيظ)؛ لنجلب بضاعة، ونستورد بضاعة غذاء، ويستدين غنماً أو بقراً من بعض القرى؛ فيتمنح بعضها، ويبيع بعضها؛ للتوسع بثمنه، ثم يسدد الدين بدين مع ما استجد من كسبه.. وببداية كسبي أعانه الله على سدادها؛ فلما توفي رحمه الله تعالى ذهبت إلى قرى الوشم أتحرى أي دين عليه؛ فما وجدت إلا قليلاً؛ فمنهم من أخذ حقه بإلحاح مني، ومنهم من أقسم أغلظ الأيمان أن لا يأخذ شيئاً، وحلل والدي؛ فالحمد لله كثيراً.. صحبته على الحمار، وعلى الجمل، وعلى السيارة، وفي الطائرة بقرى الوشم وسدير وفي الحجاز والكويت وقطر ومصر.. لله تلك الأيام ما أشدها وما أحلاها، وما أسمج هذا العصر على الرغم من النعمة والأمن؟!؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -