د. عبدالحق عزوزي
في بداية سياستها الخارجية كان للولايات المتحدة الأمريكية موقف انعزالي؛ فهي لم تكن لتهتم مثلاً بالشؤون الأوروبية؛ وكانت ترفض التدخل الأوروبي في النصف الشمالي من القارة الأمريكية؛ فأطلق على هذا التوجه المذهب الانعزالي الذي عرف رواجًا في عام 1823 مع مذهب مونرو نسبة إلى الرئيس الخامس لأمريكا. ومع ذلك، ورغم إملاءات الانعزالية، فإن أمريكا طردت بالقوة إسبانيا من كوبا والفلبين. ولكن حصلت أول قطيعة مع هذا المذهب سنة 1917 عندما أعلنت أمريكا الحرب على ألمانيا، ثم في سنة 1941 تبنت أمريكا سياسة خارجية تدخلية. وفي فترة الحرب الباردة كانت هناك مواجهة أيديولوجية وأحيانًا عسكرية بشكل غير مباشر بين أكبر قوتين في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من مظاهرها انقسام العالم إلى معسكرين: شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفييتي، وليبرالي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي كان شعار «التدخل» هو السائد، وهذا كان واضحًا في مناطق مثل أفغانستان والعراق وسوريا والصومال... وأودى التدخل الأمريكي بحياة الآلاف من الجنود، وكانت التكلفة المالية باهظة جدًّا؛ إذ تم صرف ما يزيد على 6 تريليونات دولار أمريكي في هاته الحروب. في سنة 2002 عرضت إدارة جورج بوش وثيقة «استراتيجية الأمن القوي» تحت تأثير المحافظين الجدد. وتهدف تلكم الاستراتيجية إلى الحفاظ على عالم أحادي القطب حتى تكون فيه الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة التي تسود العالم. تم استبدال مفاهيم «الردع» و»الاحتواء» بمفهوم «الحرب الوقائية»، ومفهوم «تعددية الأطراف» بمفهوم «الأحادية».
في سنة 2008 انتُخب مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، وهو المنصب الذي شغله على مدى عهدين متتاليين. ومنذ البداية امتنع عن طرح توجه توسعي لسياسته الخارجية، واختار أن يلتزم بالاعتبارات العملية والأحوال المتغيرة. ولم يعتمد على القيم الأخلاقية المجردة، أو القوة العسكرية الخشنة، بل على العلاقات والمصالح المشتركة مع الأمم الأخرى.
وستعود بعض من ملامح «الانعزالية» مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، الذي تجاوز بجرأة أدبيات «عملية الحكم» التقليدي، وتجاوز الروتين الذي تقوده إدارات الأمن والاستخبارات، وتبنى شعار «أمريكا أولاً» كقاعدة أسمى في سياسته الخارجية.
ومع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض ستعود أجزاء كبيرة من الإرث الدبلوماسي التقليدي إلى الواجهة... ففي بداية هذا الشهر كشف الرئيس الأمريكي الجديد في خطاب أمام موظفي وزارة الخارجية في واشنطن عن أهم الخطوط للدبلوماسية الأمريكية الجديدة. وقال بالحرف: «أمريكا عادت. الدبلوماسية عادت». فيما تعهد بـ»بناء تحالفات دولية جديدة» مع التصدي بقوة لروسيا والصين في خطوة منه لإنهاء السياسة التي اتبعها سلفه دونالد ترامب تجاه هذين البلدين.
كما أن حديثه يوحي أيضًا بإقبار القاعدة الانعزالية الترامبية التي تقول: «أمريكا أولاً»، التي كانت تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي جمعت كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية في المائة سنة الأخيرة. وبمعنى آخر، فإن الرؤية التقليدية لأمريكا عن العالم بدأ يحييها الرئيس بايدن الذي سيقوم بطي صفحة الانكماش الاستراتيجي الذي أتى به سلفه، الذي غيّر الكثير من الأمور في العلاقات الدولية والتجارية والاقتصادية والعسكرية...
وهناك سلسلة من القرارات أعلنها الرئيس الأمريكي، من بينها تجميد سحب القوات الأمريكية من ألمانيا. وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد أعلن خططًا لسحب نحو 12 ألفًا من القوات الأمريكية من ألمانيا، في خضم خلاف طويل مع برلين بشأن الإنفاق الدفاعي. ولدى الولايات المتحدة حاليًا نحو 34 ألفًا و500 جندي متمركزين في ألمانيا، الحليف الوثيق في حلف شمال الأطلسي «الناتو».
كما حذر الرئيس بايدن من الممارسات التجارية «القسرية وغير العادلة» التي تقوم بها الصين. وشدد الرئيس الأمريكي على أن الولايات المتحدة تعطي أولوية للحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة، وهي المنطقة التي تمثل تنافسًا رئيسيًّا واستراتيجيًّا بين الولايات المتحدة والصين. يُضاف إلى كل هذا قرار أمريكا بالعودة إلى اتفاق باريس لحماية المناخ، والبقاء في منظمة الصحة العالمية، وإيلاء المزيد من الاهتمام للمشاكل العالمية، ومحاولة حل الأزمات... وكل هذا يوحي بعودة أجزاء كبيرة من الإرث الدبلوماسي التقليدي إلى الواجهة، وتأييد التعاون متعدد الأطراف في إطار المنظمات الدولية.