محمد آل الشيخ
الديمقراطية العربية، لم تنجح منها أي ديمقراطية، حتى تونس التي يولولون أنها نجحت، لا تزال تراوح مكانها إذ إنها لم تتقهقر، أو على أحسن تقدير لا تتقدم خطوة أو خطوتين حتى تعود مرة أخرى إلى المربع الأول من جديد، وهكذا دوليك، وأنا في هذا المقال سأتخذ من العراق مثالاً أقارن فيه بين عراق ما قبل الديمقراطية وعراق الديمقراطية الحالية.
كان كثيرون، واعترف أنني كنت واحداً منهم، يعتقدون أن أمريكا التي غزت العراق في عهد بوش الصغير سنة 2003 ستجعل من هذا العملاق العربي آنذاك، عملاقاً ديمقراطياً، إلا أن نتيجة ذلك الغزو كانت طامة بكل المقاييس، إذ إن العراق الذي كان قد قطع شوطاً طويلاً في التنمية الشاملة في أغلب المجالات في عهد الرئيس صدام حسين تحول إلى دولة قزمة، كسيحة، مستباحة، يتسلط عليها عملاء إيران من المواطنين، بل بلغة أدق: شبيحتها، بينما تهجّرت نخبها إلى المنافي. العراق الذي كان يزخر بالعلماء والمتخصصين والمبدعين في أغلب المجالات العلمية، تصحّر، واستحوذ عليه الجدب المعرفي والعلمي، وتفشت فيه الميليشيات، وتكاد كل مقومات بنيته التحتية أن تختفي، فلا ماء ولا كهرباء، ولا مدارس ولا معاهد وجامعات، وتدهورت أساليب التربية والتعليم إلى مستوى لا يمكن أن تجده إلا في الدول الإفريقية الفقيرة، وقد كانت قبل الديمقراطية نموذجًا حازت فيه على قصب السبق بين الدول العربية؛ معدلات الفقر والعوز والجوع بين سكانه تجاوزت النصف تقريبًا، أما الأمن فحدث عنه ولا حرج، لسبب بسيط هو أن مؤسسات الدولة غائبة أو مغيبة، فلم يعد ثمة لا دولة تردع، ولا مصنع أو معمل يصنع، ولا رجالٌ تزرع، فالأغلبية عاطلون، حتى أن من يحصل على عمل مهما كان متدنياً يعد في رغد رغيد يجب أن يعض عليه بنواجذه.
أمريكا بعد غزوها المشؤوم تقول إنها كرست نظاماً ديمقراطياً على شاكلة الدول المتقدمة، فهناك دستور ومحاكم وأحزاب وصناديق يحتكم لنتائجها الشعب، وقوانين حديثة يرضخ لمقتضياتها الجميع دونما تمييز، إلا ذلك (التمييز) الذي يقره الدستور، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس في القضية.
الدستور الذي فبركه المحتل الأمريكي يُقسم العراقيين حسب انتماءاتهم الطائفية والعرقية، فيعطي رئاسة الدولة للأكراد، ويعطي الشيعة رئاسة الحكومة، ويعطي السنة رئاسة البرلمان، وعلى هذا المنوال الطائفي والعرقي أقر الأمريكيون الدستور، ولأن (الطائفة) عابرة للحدود استطاع الجار الإيراني الشيعي أن ينفذ إلى الداخل العراقي، ويستقطب الشيعة، ويقصي السنة، ويزيد في تمزيق اللحمة العراقية أكثر تمزيقاً من ذي قبل، إذ أدخل الميليشيات الطائفية إلى العراق، وفرض عليها أن تدافع عن الولاء للشيعة وبالتالي الولاء له، وتأتمر بأمر طهران، وتنتهي بأمر طهران، ولأن الشيعة هم الأغلبية، وهم من يرأسون الحكومة، فقد أعطوا لإيران الضوء الأخضر لتتصرف في الداخل العراقي كما تريد وكما تتماهى مع أهدافها الإمبريالية لحكم العراق.
العراق الآن دولة تابعة، وقد كانت في السابق دولة سيّده، وكذلك دولة محتلة وقد كانت في السابق، أي قبل الديمقراطية والاحتكام للصناديق دولة مستقلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. والسبب أن العراق لبس ثوباً لا يتواءم مع قياساته ولا تكوينه الإثني ولا الطائفي، وكانت النتيجة ما ترون لا ما تسمعون.
النظام الديمقراطي نظام يتناقض مع المجتمعات الطائفية والدينية، ولا يمكن لأي ديمقراطية عرفها العالم إلا وترتكز بشكل جوهري لا يمكن التنازل عنه على الدولة المدنية، أو دعني أقولها مباشرة ودون مواربة على الأسس والمفاهيم العلمانية، فمبدأ (المساواة) بين أفراد الشعب وعدم التفريق بينهم لأي سبب ديني أو عرقي، هو ركن من أركان بناء الدولة المدنية، ولأن تجربة العراق الديمقراطية التي ترتكز على دستورها لا تلبي هذا الركن، انتهت التجربة العراقية إلى هذا الوضع الذي جعل العراق الجديد في هذا الوضع المهترئ أمنياً واستقراراً وتنمية، رغم أنه يملك كل مقومات النجاح التي تزخر فيها كل الجغرافيا العراقية من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. إيران لها مطامع تاريخية في العراق، وغني عن القول إنها ستسعى إلى تكريس (ديمقراطيته)، لأن هذه الديمقراطية هي التي فتحت لها الأبواب على مصاريعها لتحتل العراق، بقي فقط أن تضيفه رسمياً إلى جغرافيتها، مثلما أضافت عربستان (الأحواز) إليها.
كل ما أريد أن أشير إليه هنا أن الديمقراطية في ظل العنصرية الدينية والقبلية أو الإثنية هي بمثابة نسف أمن واستقرار أي دولة عربية، ولتتأكد مما أقول قارن بين العراق في زمن صدام والعراق في زمن الديمقراطية.
إلى اللقاء