أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: نمو اللغة وسعتها باستعمال اللفظ الواحد لأشياء عديدة دون الباس ظاهرة: من أسبابها الحرص على استعمال صيغة بعينها لميزة فيها؛ ولهذا الحرص تعددت مستعملاتها، ومن أسبابها الانتقال من دلالة الاسم إلى صفات المسمى ولوازمه بحيث ينتقل منها بالاسم نفسه إلى تسمية أعيان ومعاني أخرى، وتعبيري هذا عن هذه الظاهرة لن يكون في منتهى الوضوح ما لم أشرح كل جزئية من الظاهرة بأمثلة؛ وقد اخترت صيغة (الفعل) بفتح الفاء وسكون العين، واخترت مضمناً لهذه الصيغة مادة الغين والراء والباء؛ فذكرت معاني الغرب بفتح الغين وسكون الراء، وحق الغرب أن تكون مصدر للفعل غرب غروباً، ولكن العرب عدلوا عن هذه الصيغة مصدراً؛ إلى مصدر سماعي قياسي هو الغروب؛ والسر في ذلك استبقاء الفعل ليكون أسماع لأشياء؛ لخفة وزنه وخصوص دلالة صيغته، والعرب تطلب الميزة في الأسماء لكثرة تداولها.
قال أبو عبدالرحمن: دل السماع حسب استقرائي لمعاني هذه المادة على أن ما ورد على وزن غرب (بفتح الغين وسكون الراء) لا يراد به المصدر؛ وإنما يراد به التسمية، ومما ورد ههنا الغرب وهو اسم للدلو الكبيرة، وسمي الغرب بفعله وهو الغروب بمعنى الغياب والبعد، والأصل في مادة الغين والراء والباء هذان المعنيان معاً؛ فغرب هنا معدول بها عن صيغة فاعل (غارب) فهي اسم فاعل؛ لأن فعلاً أدل على كثرة الفاعلية وتجدده باستمرار؛ وإنما كانت أدل؛ لأنها ترد بكثرة مصدراً لكل فعل ثلاثي مجرد قياساً أو سماعاً، والمصدر اسم للحدث، وتسمية المحدث (بصيغة اسم الفاعل) باسم الحدث دليل على الاستمرار من وجه بلاغي هو المبالغة؛ فكأن الواضع ادعى أن المحدث هو نفسه ذات الحدث؛ فسماه به لاتصاف كل أعماله به.. ألا ترى أن العدل مصدر الفعل عدل، فهي اسم للحدث، ثم أطلق للدلالة على الفاعل على سبيل الصفة اللازمة، ولهذا فمن شهد عليه بحدث واحد جائز؛ فلا يوصف بالعدل إلا بالتقييد فيقال: هو عدل في حدثه الفلاني.. والدلو من حقها أن توصف بالغروب؛ فيقال: دلو غاربة، إلا أن هذه الصفة كانت أولى بالتسمية بصيغة فعل الدالة على استمرار الحدث؛ لأن الدلو ما صنعت إلا لتجدد هذا الحدث واستمراره، ولم تؤنث الصيغة بالتاء؛ لأنها تلغي المبالغة لاحتمال دلالتها على المرة الواحدة، وعند إرادة المبالغة يكون الاحتياط من الاحتمالات، وتقييدهم الغرب بالدلو الكبيرة يدل على أن صيغة فعل ههنا لا يراد بها الدلالة على ذات يدلى بها وحسب؛ بل المراد الدلالة على موصوف بالغروب أي البعد والغياب؛ لأن كبر الدلو أدعى لغروبها في البئر لثقلها؛ فهذا هو علاقة الاسم الذي هو الغرب بالمسمى الذي هو الدلو، ومن وظائف الدلو الإدلاء بها وغروبها وانتزاعها الماء وجذبها وصبها للماء؛ فهذه صفات للمسمى، والعرب تتوسع باستعمال مادة الاسم لأعيان أخرى بموجب صفات في المسمى أو لوازم منه؛ فالغرب اسم لأحد عناصر وظيفة الدلو الذي هو وصف لها، هذا العنصر أولى بالمراعاة في التسمية؛ لأن غروبها سبب لانتزاع الماء وصبه، وانتزاع الماء وصبه نتيجتان، والسبب مقدم على النتيجة، ولم يكن سبب الإدلاء هاهنا أولى بالتسمية؛ لأن التسمية بالدلو استقرت على صغار ما يستقى به، وأريد نوع خاص مما يدلى به، وهو البعد في القعر لاجتذاب ماء أكثر؛ فاختير الغرب الدال على البعد؛ لأن أداة السقي كبيرة، ولا بد أن يكون بعدها أكثر وبإيجاز فالعل (غرب) بمعنى بعد وغاب، والغرب دال على فعل الغروب وهو الغياب والبعد؛ لأنه بمعنى غارب مع زيادة دلالة الاستمرار والتجدد، ولهذا سميت الدول الكبيرة غرباً؛ لأن وظيفتها الغروب في قعر البئر باستمرار، وإذا كانت صيغة فعل تعني اسم الفاعل وعدل لها إلى صورة صيغة المصدر للمبالغة كورة آنفاً فهناك ملحظ بلاغي آخر، وهو صيغة (فاعل) لمن وقع منه الفعل، فإذا كان الفعل واقعاً عليه ورد اسم الفاعل على صيغ أخرى، وقد جاء في القرآن الكريم (غور) بمعنى غائر.. انظر كتاب (فقه اللغة) لـ(الثعالبي) ص 311، وكتاب (لفتات ومواقف) للدكتور (محمد بركات) ص41، 48.
قال أبو عبدالرحمن: ويدلك على أن تسمية الغرب بصيغة فعل رُوعي فيها اسم الفاعل أنها دلت على ثلاثة أمور لا يدل اسم الفاعل على غيرها: فقد دل على معنى المصدر وهو اسم الحدث أي البعد، ودل على مضارعه الفعل الذي للمستقبل وهو التجدد.. أعني أنه يغرب تارةً بعد تارة، ودل على ما أسندت إليه الفاعلية مجازاً وهو هذا الجلد المسمى (غرباً)، وبإيجاز فإن مادة الغين والراء والباء تعني البعد والغياب معاً، فإذا استعملت المادة لهذين المعنيين معاً فذلك حقيقة لغوية، وإن استعمل لأحدهما فذلك مجاز لغوي، وصيغة الفعل تدل على الفاعلية وكثرتها، وتسمية الدلو العظيمة غرباً تسمية مجازية وإن وجدوا البعد والغياب معاً، والسر في ذلك أن في المسمى معنىً زائداً على الحقيقة وهو ذات الدلو بهيئتها ومادتها التي صنعت منها، والوضع اللغوي لوصفين مجتمعين، وليس لذوات أعيان، ومن لم يحقق الوضع اللغوي ربما ظن أن الدلو العظيمة لما كانت تبعد في قعر الأعماق سميت غرباً بمعنى غاربة مع التكثير للفعالية على التشبيه بالشمس؛ لأنها تبعد في الغروب عمَّا كانت طالعة عليه من الأرض، والواقع أننا لسنا بحاجة إلى هذا التشبيه ما دام البعد والغياب موجودين في الدلو، وسمى العرب الحد والحدة غرباً؛ لأن الحد أحد أبعاد الجسم الأفقية أو الرأسية، وتكون التسمية من هذه مجازية لا حقيقية؛ لأن الحد بمعنى البعد من أحد الأطراف وذلك أحد معنى الغرب؛ لأن الغرب اسم للبعد والغياب معاً، ولا يكون اسماً للحد إلا إذا كان حاداً؛ أي مرفقاً، وما أرهف حد أي آلة إلا ليغرب.. أي فيما استعملت الآلة لكسرة أو قطعة، فجاءت على صيغة الفعل الدالة على المبالغة لتكمل معنى المادة الأخرى، وهو الغياب؛ فالغرب هنا بمعنى غارب أي مبعد في غيابه، وهو مع هذا من التسمية مجازاً من ناحية الصيغة؛ لأن الأصل فيها المصدر وجاءت لاسم الفاعل، ولا يروع تعدد الآلات والذوات المسمى حدها غرباً؛ لأن التسمية لحد الآلة ذاتها، ولا معنى لقول بعض اللغويين: ذكر فلان الغرب لحد السيف ولم يذكر الغرب الفأس؛ فهذا استدراك لا معنى له؛ لأن الغرب اسم لحد كل آله وجدت أو ستوجد، عرفت أو ستعرف.. قال (ابن الأعرابي): الغرب حد كل شيء.. وقد أصاب رحمه الله في تعميم كل ذي حد، ولم يدقق في تمييز حد من حد؛ بل الصواب: أن الغرب للحد الحاد أي المرهف.. قال (الفيومي): والغرب الحدة من كل شيء نحو الفأس والسكين حتى قيل: اقطع غرب لسانه أي حده.. انظر كتاب (المصباح المنير) ص608، وقال (عيسى بن إبراهيم بن قتيبة) في كتابه (الألفاظ المغربة): (الغرب حد الأسنان، وحد كل شيء).. وقال (مالك بن زغبة الباهلي):
ألا زعمت علاقة أن سيفي
يفلل غربه الرأس الحليق..
انظر كتاب (الاختيارين) ص196، وفي كتابه (إضاءة الراموس) عن بعضهم: أن الغرب يطلق بمعنى السيف أيضاً لا على خصوص الحد، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -