قبل أيام ذهبت لتلقي الجرعة الثانية من التطعيم ضد عدوى «كوفيد- 19»، بعد أن وقعت على استمارة الموافقة، جلست انتظر بين عدد من الزملاء، في باحة من الكراسي المتباعدة، والعبارات التشجيعية مكتوبة على الأعمدة مثل «أنت بطل!» و«نحن نثمن لك دورك» و«استمر للأمام» و«معًا سنهزم كوفيد- 19»، وهكذا دواليك، مما يذكر بعبارات «العم سام» المحفزة على الانضمام للجيش الأمريكي في أوقات الحروب. زد على ذلك أن من ينتظرون معي أشبه ما يكونون بثكلى وجرحى الحروب. فتنتظر هنا معي زميلتي التي فقدت والدها بسبب الوباء، هذا الذي قضى أسابيعه الأخيرة في سرير العناية المركزة بين الصحو والإغماء دون أن يجد أحدًا بجانبه، في حين كان الحزن يأكل زوجته لأن الحجر الصحي حال بينها وهي في الهند وبين زوجها المحتضر في نيويورك. وهنا زميلي، الذي أصيب قبل شهرين، ونجا، ولكنه لم يعد كما كان من قبل، فسيماؤه الآن الخمول والانعزال الاجتماعي بعدما كان شخصية حية بيننا. فلا يعيى المرء في اقتفاء أثر الوباء في كل وجوه الموجودين هنا.
بعد دقائق الانتظار، استدعاني كبير الأطباء العلماء في مستشفانا في كليفلاند، فهو يعمل الآن متطوعًا للتطعيم. بعد التحية، بادرني بالأحاديث الجانبية تمضية للوقت حتى ينتهي من بعض الإجراءات، ثم وجدت نفسي أذكر له أني قبل سنوات قرأت رواية العمى للبرتغالي «جوزيه سارماغوا» عن عمى أبيض يجتاح المدينة، ثم حضرت لقاء لبعض الأصدقاء يتناقشون الرواية، وأثار استغرابي وقتها أن الحديث دار حول المعنى العميق للرواية، فانسحب الحوار إلى التفتيش عن مكامن السلطة ومظاهرها في تعامل السلطات مع الوباء، فقد كان أبرز من حضر اللقاء للتو قد قرأ أعمال الفرنسي فوكو عن السلطة، لكن لم يتناول أحد فكرة الوباء نفسه! وكأن الوباء كان ضرورة روائية فقط احتاجها الروائي للترميز للمعنى المراد دون أن تمت لواقعنا بصلة! وأحالني بدوره، وهو يغرس الإبرة في ذراعي اليسرى، إلى رواية «سنة الأعاجيب» التي تتناول طاعون لندن العظيم عام 1666م وهو يصل إلى قرية «أيام»، ثم حين انتهى من الإجراءات قام ليودعني ويستقبل زميلاً آخر من اليونان اسمه «ديميتريس»، الذي يعمل مع طبيب القلب هذا في بحث ما، فقال طبيب القلب مبتهجًا: «هذا يوم جميل، للتو أمضيت حديثًا عن الأدب والوباء، والآن سأتحدث عن الإغريق، أصل العلم، والطب والحضارة إجمالاً»!
استثارتني جملته هذه، فهي تشي برأيي بقناعة الكثير بأن أوروبا هي بداية العالم كعالم عاقل، فمن يقرأ تاريخ الفلسفة يبدأ باليونان! وأرسطو هو أول عالم في التاريخ! وأبقراط هو أول طبيب معروف بالاسم! بل إنك إن أمعنت النظر في الطب المعاصر تجد أن بعض التفاصيل تدعم هذه الفكرة، فالمصطلحات الطبية العلمية في الأعم الأغلب ترجع للأوروبية إن بنسختها اللاتينية أو الإغريقية. ويبدو هذا انصياعًا لهيمنة الثقافة الأوروبية وابنتها الأمريكية. ولعل من مبررات ذلك الانفجار المعرفي الغربي الضخم الذي يتناول تاريخ أوروبا بوصفه تاريخًا للعالم، فبدا متناولاً للقراء بينما تاريخ الأشياء خارج أوروبا مطمور في الكتب التراثية التي لم تتناول في تيارات الثقافة العالمية بشكل جاد إلا من قبل بعض الغربيين أنفسهم، وكأن أوروبا ترد الجميل للعرب بنقل معارفهم القديمة إليهم كما فعل العرب من قبل بنقل معارف أوروبا لها أيام نهضتها. فبتنا نكتشف نصوصًا وزوايا أخرى من تاريخنا عبرهم، خذ مثلاً أعمال المستشرق الإسباني بلاثيوس ودراساته عن ابن حزم وابن عربي، وأطروحته للدكتوراه عن الغزالي. لكن لا يصح التسليم لأوروبا (الإغريق) بأنها البداية في كل شيء لمجرد أن أدوات البحث العلمي المعولمة لم تطل الحضارات القديمة العديدة الأخرى.
لا شك أن أبقراط له موقعه المهم في تاريخ الطب، فينسب له السبق في حصر تفسير الأمراض بالأسباب الطبيعية، نازعًا القداسة حتى عن «المرض المقدس» آنذاك، الصرع، بإعلانه ليس مقدسًا، رغم أن تفسيره بدائي لمرض الصرع آنذاك، معللاً نوبات الصرع بأنها نتيجة تجمع البلغم في الدماغ بحسب نظرية الأخلاط الأربعة السائدة آنذاك: الصفراء والسوداء والدم والبلغم، لكنه في النهاية عزا مرض الصرع إلى الدماغ عوضًا عن الأرواح في خطوة غير مسبوقة، وينسب له كذلك القسم الأبقراطي الذي يحلو للبعض اعتباره الخطوة الأولى لتهذيب ممارسة الطب بالأخلاقيات، وهو من فصل الطب عن الفلسفة المكتوبة ليكون له مساره الخاص المتميز عن الفلسفة بكونه أكثر صلابة وأقل سيولة. وقد يلاحظ القارئ أن كل هذه الأمور منسوبة له، إذ إن هناك جدلاً عما إذا كان هو من قام بكل ما ينسب إليه أم لا، فمؤلفاته الضخمة بعنوان (الجسد) تتباين في أسلوبها ولغتها ومنطقها، مما يشير إلى كتابة تلاميذه وتلاميذهم فيما بعد وهلم جرًا، باسم أستاذهم، وهذا لا يؤكد بطبيعة الحال إلا على أثر أبقراط الكبير. ثم يتذكر الناس جالينوس، الذي جاء بعد أبقراط بخمسمئة عام وتربع على عرش الطب ألف عام، الإغريقي الذي مارس الطب في أنحاء روما وعالج أباطرتها، وقد قارب بين أفلاطون وأبقراط مقترحاً عبر نظرياتهما نظامًا فسيولوجيًا مبنيًا من ثلاثة أجزاء للروح، فيبدأ النظام من المعدة التي تحمل الطعام عبر الوريد البابي إلى الكبد ليختلط بالروح الغريزية، ثم ينتقل للقلب ليختلط بالروح الروحانية فيستنشق الهواء عبر الرئتين ثم يذهب للدماغ عبر الشريان الأورطي ثم السباتي ليختلط بالروح العقلانية. وبالرغم من أنه لم يشرح إلا الحيوانات بحكم أن الإغريق حرموا تشريح جثث البشر، إلا أن نظرياته التشريحية (عن البشر) كانت سائدة لأكثر من ألف عام!
لكن بالرغم من الأثر الهائل لأوروبا وأمريكا الشمالية على العالم عموماً اليوم وفي مجال الطب خصوصًا، إلا أن الطب أقدم من أبقراط بكثير، ليس فقط بالطب الشاماني الموسوم بالسحر، وإنما حتى ببعض الممارسات الجراحية التي لا زالت تُمارس حتى يومنا هذا في أشهر المستشفيات الأكاديمية الحديثة. عملية نقب الجمجمة على سبيل المثال يعود تاريخها على الأقل إلى اثني عشر ألف عام من اليوم، والعجيب أن هذه العملية وجدت بشكل متوازٍ في حضارات عدة غير متصلة ببعضها، في أمريكا الجنوبية، وأوروبا، وإفريقيا وآسيا. بل إن أصل فكرة المستشفيات، وجود مكان يذهب إليه المرضى للاستشفاء سواء بالسحر أو الطقوس الدينية أو العمليات الجراحية أو التطبيب بالأعشاب، لا يعود لمعابد الإغريق، فحضارة الفراعنة سبقتها بذلك. زد على ذلك أن أقدم اسم طبيب سجله التاريخ حتى هذه اللحظة ليس أبقراط، بل حسي-رع، كبير أطباء الأسنان في مصر الذي سبق أبقراط بألفي عام، وكذلك معاصره أمحوتب، المعماري والوزير مرافق الفرعون في معاركه الذي وصف في أحد أهم وأثرى المخطوطات التاريخية الطبية (مخطوطة إدوين سميث)، محتويات الجمجمة والسائل النخاعي وبعض العمليات الجراحية كمناورات إرجاع العظام المخلوعة إلى مكانها في تجويف المفاصل، إلا أن أمحوتب مشكوك في كونه طبيبًا حيث يظن أنه مؤرخ وليس طبيبًا ممارسًا.
وقد يظن أحدهم أن ما كان قبل الإغريق غير ذي أثر إن وجد، بالزعم أن أفكار الإغريق كلها أصيلة لديهم لم يتأثروا بأحد فيها، وأن العالم اليوم بشكل أو بآخر هو استمرار خطي للفكر الأوروبي منذ بدايته فقط! وهذا سيكون ادعاءً باطلاً من بداية تاريخ الإغريق، فالإغريقية لم تكن غيتو مغلق، ولا زال العلماء يكتشفون النصوص القديمة التي تدل على اقتباسات الإغريق القديمة من العراقيين، فإحدى حكايات إيسوب الشهير: «البعوضة والثور» ما كانت إلا ترجمة لنص بابلي أقدم منه! وهذا يدل على تأثر الإغريق بسابقيهم بل الاقتباس منهم!
والتاريخ بطبيعة الحال ليس محصورًا في فراعنة مصر، لكن في ظني أن مصر هي أكثر حضارة قديمة مدروسة، ولذا نعرف عنها تفاصيل أكثر بكثير مما نعرفه عن جاراتها من الحضارات القديمة. فالبابليون كانوا يمارسون الجراحة قبل وجود الحضارة اليونانية بثلاثة آلاف سنة، بل كانوا يمارسون عمليات صعبة ودقيقة مثل عمليات إزاحة الماء الأبيض في العين، ولا أدل على شيوع الوصفات الطبية والجراحات أيام البابليين من وجود شرائع خاصة بذلك في شريعة حمورابي التي تنص على أن يقطع طرف الجراح الذي أجرى عملية باءت بالفشل وحددت بعض الرسوم مقابل بعض العمليات الجراحية. وهذه الشريعة بالمناسبة تنقض ادعاء الأسبقية لأبقراط والإغريق بأخلاقيات الطب! وإن فتشت عن الحضارات الأخرى فإنك لن تعدم أن تجد آثارًا قد تكون أقدم من الأوروبيين.
ففي النهاية، يصح أن يكون أبقراط والد الطب الغربي بالتحديد، لكن ليس بالإطلاق. وهذا بطبيعة الحال لا يقلل من أثره وأثر الحضارة الأوروبية الضخم الذي نعيشه اليوم، وإنما يدعو إلى دراسة الحضارات السابقة بتفصيل يجاري التي نعمت به الحضارة الفرعونية مثلاً. فيتساءل المرء، ماذا سيجد إن أولي الاهتمام إلى أراض الجزيرة العربية باستقصاء علمي صبور، فكيف كان الناس في دلمون يتعاملون مع المصروع؟ وهل عرف الجرهائيون وهم تجار التمر القدماء، مرض السكر؟ وهل وصف القيداريون الفالج؟ وهل عانى ملوك كندة من مرض النقرص؟ كيف تعاملت مملكة سبأ مع الملاريا؟ هل عرف المناذرة اللخميون الطاعون؟ وكيف واجه الغساسنة وباء السل؟
** **
- د. سلام نصرالله