تنوعت صور مخرجات الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية منذ البدايات إلى الوقت الحالي؛ إذ كانت هذه البدايات قد ظهرت في المعارض الشخصية من خلال اللوحات بالصورة التقليدية، كما قد عرضت مخرجات تشكيلية لتشكيليين سعوديين، برزت في تقنياتها الأساليب غير التقليدية التي خرجت عن نمط اللوحة واللون، مثل النحت بخامات مختلفة، والتجهيز في الفراغ، وكذلك الكولاج بالخامات غير التقليدية وغيرها. يعد هذا تحديًا أمام الفنان التشكيلي السعودي مع تطور الوقت الذي يشركه في الصفوف الأولى للعرض في معارض عربية وعالمية، التمست أثر التجريب التشكيلي الذي كان نتاج مهارة الفنان ومفرزات الصناعة والمستهلكات مع التأثر بالثقافة المحلية. وتظهر أصالة التشكيلي السعودي في تطويع هذه الثقافة بأسلوب معاصر، استطاع أن يمزجها ويخرجها في قطع تشكيلية ذات فكر موجَّه.
عند التجوُّل بين المعارض المعاصرة، والبحث عن أنموذج يثير شهية الكاتب للكتابة، انتقيت معرضًا تشكيليًّا لفنان، مزج ثقافته مع ذكرياته، ومارس تقنية تطويع المادة في قالب الرسالة مستفيدًا من كل ما يسمح له بالاستخدام في سبيل تجسيد الفكرة بوجدانية عالية، تلتمس فيها ذائقة المتلقي، وتطلع الممارس التشكيلي. هذا المعرض الذي أقيم في عام 2009م استمر بالفكرة نفسها بتطور الأحداث، يفاجئنا في كل مرة بمخرجات تجعلنا نقف في صمت من عمق الذاكرة.
(ثمة ما يستحق 2009) معرض تشكيلي، يقدم للمتلقي نتاج تجربة تشكيلية؛ إذ تلك المساحات الباردة لون، والدافئة معنى. معرض تشكيلي احتوى على ثلاثين عملاً، بقيت حكاياتها في الذاكرة؛ إذ قدم الفنان بشكل مختلف بعض مما تخفيه دواخل الطفل والكبير، القديم والحديث، المثقف والمتطلع. من أين نبدأ قراءة نصوص الخديدي؟ إننا نتوه جمالاً.
فيصل الخديدي التشكيلي الغيور في ثقافته التشكيلية جسر الود بين ما يجد وما يقدمه للمتطلعين والباحثين، اختار أن تكون قاعة عرضه مثلجة، يشعر المتجول فيها ببرودة تعبيرية. تتكون معروضات الخديدي من عناصر جاهزة من أوراق وألعاب وصور وكتب ولوحات مخرجة بإخراج تشكيلي (مؤثلج) داخل قوالب من الراتنجات، جمّد فيها التشكيلي (اللحظة) من مشاعر ومواقف وقيم وعلاقات إنسانية؛ إذ تمكن الخديدي من استخدام مادة (الراتنج) في توثيق اللحظات، وحفظها بفلسفة التجميد.
الأعمال التي احتواها المعرض كانت تمسنا نحن المتلقين؛ إذ بدأ بنا وانتهى بنا، من حيث تجميده لألعابنا التي نسيناها ما إن وثبنا لسن الشباب، كما جمد تقنياتنا الإلكترونية وثقافتنا، كُتبنا التي لم نفها حقها من التطوير الذاتي، بل عبثنا بأنفسنا بها. كما أثلج الخديدي لوحات دافنشي والجورانيكا. رسالة موجهة لمن يعي عظمة الفن واستمراره. ولم يخفَ على الخديدي أن أخذ الأصدقاء، وأثلج صورهم، ليقول لنا ثمة ما يستحق أن يبقى.
عوالم تسكن عالمًا, من طفولة إلى شغب, إلى موت تقديري، إلى ألم دفين في أعمق نقاط النفس. إن الخديدي ينبه من خطر النسيان وهو يخاطبنا بحذر, كلما توغلنا في تلك المساحة التشكيلية، عندها نرى القيم واللحظات والأشخاص والكتب واللوحات وتلك النظرات التي استوقفها وأثلجها. كل ذلك الصخب البارد والصخب الصامت هو صراخ بأفواه مغلقة, تنبيه صريح وقوي بقوة البرودة التي تؤلمنا من التجمد. إنه تنبيه من الاستقصاء والتهميش لكل ما هو عفيف وإنساني مضغته ولفظته الماديات المحيطة. إنه تنبيه للحظات ولعناصر حميمة موجودة وعاشت معنا، لكن هُمشت منا وبسببنا أو بسبب ما نوليه اهتماماً زائداً تاركين ما يكمن فيه روح العفة والرقي والتسامي والقيم. هل يتعمد الخديدي أن يؤلمنا لنعيد التفكير بمحيطنا؟
ذكر الخديدي في مقاله على البروشور الخاص بالمعرض “إن الإنسان قدٌ من معاني النسيان تارة، ومن معاني الظهور تارة أخرى”. هنا يعطينا أول إشارات التنبيه لما هو قادم من أجله. ثم أكمل “فيكون ظاهرًا في: مبادئه وقيمه وفكره وأخلاقه ودينه”. هنا يحدد الخديدي في خطابه أرقى مقتنياته الإنسانية التي عمد لتجميدها في معرضه، “ومتى ما هبت عليه رياح النسيان. فإن الأثلجة والتجمد هو البديل لكل ما هو قيم”. وضح الخديدي وضح الخديدي خصمًا لهذه القيم، هو النسيان، وكان الحل التشكيلي لهذه القضية هو الأثلجة والتجمد.
“ووسط أكوام المجمدات. ثمة ما يستحق” فيصل الخديدي يدعونا بيقين إلى أن نراجع ما قد نفقده ونتمسك به؛ فبين معروضاته بعض من مقتنياتنا يستحق التقدير والبقاء.
في أحد أركان المعرض أذكر أنها كانت في ركن متقدم على يسار الصالة في مساحة لا تتعدى بالتقريب المترين عرضاً، خصصها الخديدي بعناية تامة؛ ليحفظ عليها قصة من العمر وذكريات دافئة تؤلمنا إن آمنـا بفقدها، وتسعدنا أن تصفحنا يومياتها، إنه عمل يحكي تأريخ رفقاء فصل دراسي.
العمل عبارة عن دلو معدني، يحتوي على قطع مكعبة الشكل مؤثلجة (بالراتنجات)، داخل كل قطعة توجد صورة قديمة لشخص. وضعت القطع المؤثلجة بهذا الإناء، ونلاحظ أنها جزء من مجموعة قطع علق بعض منها على الحائط، كما يبدو أنه وجد بعض المساحات الخالية بين القطع المعلقة على الحائط، تُركت خالية بدراسة مقصودة من قبل الفنان.
العمل بُني على أساس مفاهيمي، قوامه الفكرة والتنظيم في الفراغ بمجرد النظر لهذا العمل الموزع. بين الحائط والدلو المعدني نجد علاقة تربط العناصر ببعضها، وهي القطع المعالجة بالراتنجات الموجودة داخل الدلو المعدني التي تأخذ معالجة القطع المعلقة نفسها على الحائط. إن تكامل تكوين العمل بالمادة المعالجة هو ترابط يقود إلى وصول الفكرة من خلاله؛ إذ تتضح هنا فلسفة الفن المفاهيمي، وهي الشكل الأكثر إشكالية وتطرقًا وغموضًا بالمعنى.
في هذا العمل يجمع الخديدي بين تقنية المعالجات وفلسفة المفاهيمية والشعور بالماوراء؛ فنلاحظ أن فكرة المعرض هي الأثلجة، والمحافظة على ما قد يُفقد منا، ثم أخرجه بطريقة تقنية عالية في الأداء مستخدماً بذلك الصور القديمة. والواضح أنها تنقل لنا فترة زمنية معينة, وعددًا محدود من الأشخاص، أو ما تبقى منهم. أما طريقة التنظيم البصري في عرض العمل في اختيار الدلو المعدني بعناية فنلاحظ أنها تتناسب مع الفكرة عمومًا. أما طريقة عرض الصور المؤثلجة على الحائط التي علقت بتنظيم مكونةً مساحةً مستطيلة. أما بعض الأماكن الخالية فهي خطاب موجّه للمتلقي، مفادها (هناك من كان هنا وفُقد).
كما وُضع بعض من الصور المعالجة في الدلو المعدني الموضوع بعناية بجانب المعروضات؛ لتكون الرسالة (هنا سقط أحدهم). وبذلك انتهى الخديدي في إخراج عمل مفاهيمي غير تقليدي، يدعو للدهشة والتأمل.
إن العمل يعكس فلسفة الفنان في مخرج مفاهيمي، يدور حول إبراز الفكرة ومخاطبة الثقافة البصرية، ودعوتها لقراءة متأنية لما وراء الشكل. الفنان نقل ثقافته وفكره من عمق تجربة تشكيلية بطريقة تثير الدهشة, حقق لفت انتباه المتلقي للماوراء,ونجح بإيصال رسالة التنبيه (ثمة ما يستحق) في تلك المساحة كان يا ما كان وما زال كائنًا على القين كنا وما زلنا مجمدين كصراخ بأفواه مغلقة.
** **
آمنة صالح الحارثي - ماجستير تربية فنية - نقد وتذوق فني