ياسر صالح البهيجان
تزايدت التحديات التي تواجه المدن الكبرى حول العالم نتيجة التوسع العمراني غير المدروس، والارتفاع غير المسبوق للتعداد السكّاني، في وقت لم تتمكن فيه الخدمات الأساسية والبنى التحتية من مواكبة ذلك التسرع، الأمر الذي فرض على المخططين الحضريين صياغة استراتيجيّات لتوجيه عملية نمو المدن بطرق ممنهجة تكفل الازدهار والنماء، وتحقق تطلعات السكّان، وتتغلب على السلبيّات الراهنة والمستجدة.
إعلان قائد رؤيتنا الطموحة سمو ولي العهد، حفظه الله، لاستراتيجية الرياض يؤكد استشعار القيادة للتحديات آنفة الذكر، وإيمانها بأن قدرة المدن على التنافس الدولي مرهونة بالخطط الاستراتيجية التي تسيّر النمو والتمدن الحضري، وضرورة أن تهتدي بيئتها المبنية وفضاءاتها العمرانية برؤية تضمن انسجامها مع المستهدفات الكبرى المحققة لمعايير الارتقاء بجودة الحياة، وإيجاد الممكّنات الكفيلة بتحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
سنستعرض إسهام البروفيسور الأمريكي كريستوفر تشارلز بينينجر في صياغة مبادئ التحضر الذكي، التي تعد إحدى نظريات التخطيط الحضري الرائدة على المستوى الدولي، وتتألف من 10 بديهيات أساسية تُبنى عليها خطط التطوير في المدينة.
تسلط البديهية الأولى الضوء على ضرورة أن يكون توسع المدن متوازنًا مع الطبيعة، ومتكاملاً مع العناصر البيئيّة، ويحرم فيها ردم الأودية أو إزالة الجبال والتلال والأشجار كونها مكونات أساسية في المدينة وموارد تحقق التوازن البيئي. وتنص البديهية الثانية على أهمية التوازن مع التقاليد، من خلال احترام التراث الثقافي للمكان، وأيقوناته الوطنية والمجتمعية ومعالمه التاريخية وهياكله التراثية.
وتشير البديهية الثالثة إلى استخدام التكنولوجيات الملائمة للسياقات المحلية، وتشمل تقنيات البناء ونظم البنية التحتية وإدارة المشاريع التي عليها أن تنسجم مع التضاريس الجغرافية والحالات المناخية والموارد المتاحة محليًا. وتراعي البديهية الرابعة التفاعل الاجتماعي في الفضاء العمومي وتهيئته لمختلف المواقف الإنسانية، من خلال تصميم أماكن تلائم الفرد والعائلة وسكّان الحي وزوار المدينة، لضمان المشاركة الاجتماعية وتعزيز العلاقات بين البشر وتلبية تطلعاتهم.
وتؤكد البديهية الخامسة على التوازن بين استهلاك الموارد مثل الطاقة والوقت والمال مع الإنجازات المخطط لها في مجالات الراحة والسلامة والأمن والوصول والنظافة، ومن أمثلتها تعزيز الحركة سيرًا على الأقدام، وربط المشاة بأنظمة النقل العام؛ بهدف خفض استهلاك الطاقة، وتقليل الانبعاثات الملوثة للهواء. وتركز البديهية السادسة على توسيع نطاق حضور الإنسان في المدينة بشكل أكبر من المركبات، مما يمنح شعورًا بأن الفضاء العمراني تأسس لتحفيز السكّان على التنقل بأقدامهم للوصول إلى وجهاتهم المحببة كالحدائق العامة والساحات والمقاهي.
وتوضح البديهية السابعة أهمية أن تحفل المدينة بالفرص الاستثنائية للسكّان، وتوفر لهم إمكانات التنمية الشخصية والاجتماعية والاقتصادية من خلال سهولة الوصول إلى الخدمات والمرافق، وتعزيز فرص العمل والتعليم والترفيه. فيما تشير البديهية الثامنة إلى التكامل الإقليمي فيما بين المدينة ما يجاورها من ضواحٍ لا تخلو من التجمعات السكانيّة، وتراعي إمكانية أن تُضم تلك الضواحي إلى المدينة في المستقبل استجابة للتمدد العمراني المتزايد.
وتتناول البديهية التاسعة الحركة المتوازنة في المدينة من خلال تأسيس أنظمة نقل متكاملة فيما بينها، لتشمل الممرات ومسارات الدراجات والحافلات وسكك الحديد مترو الأنفاق وشبكات الطرق. في حين ترى البديهية العاشرة ضرورة تحقيق مبادئ الشفافية المؤسسية لدى الإدارة المحلية للمدينة وفق إطار مؤسسي قوي ورشيد يضمن توجيه التنمية الحضرية بطرق سليمة ومدروسة.