الهادي التليلي
قد يختلف كل منَّا بشأن أوباما كممارسة سياسية بقيت آثارها عالقة إلى الآن على الشرق الأوسط والعالم وخاصة على الملف النووي الإيراني، ولكن قد نتفق بأن المرجعية الفكرية التي جعلت منه الزعيم المؤثر داخل بيت الحزب الديمقراطي الأمريكي بشكل يجعل منه الفاعل الخفي سواء كان داخل السلطة أو خارجها. وفي الحقيقة تكوينه الأكاديمي الذي جعل قراء فكره يحصرون الرجل في مجال حوار الثقافات الدينية مسألة بعيدة كل البعد عن فهم الرجل المؤثر والفاعل الرئيسي في المشهد الأمريكي في صفحته الديمقراطية، فأوباما ليس مجرد سياسي يبني برنامجًا سياسيًا ويدافع عنه ثم يسعى إلى تحقيق جزء منه. كاريزما سياسية وعقل سياسي يستند في عمقه إلى مرجعية تجسدت خاصة في فكر الفيلسوف وعالم الاقتصاد السياسي ومنظر الديمقراطيات الحديثة يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما والذي سطع نجمه بكتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الصادر في 1992، هذا الكتاب الذي بدأ كمقالة قبل ذلك في مجلة ناشوينال انترست سنة 1989 ثم توسع فيها لتصبح كتابًا ملأ الدنيا وشغل الناس، وتُرجم إلى كل لغات العالم في طبعات متعددة، وتعرض فيه إلى مسار وخط سير الديمقراطيات الحديثة التي شيأت الإنسان ونمذجته وجعلته مجرد علامة في سيمياء السوق الحرة، معتبرًا نهاية التاريخ الديمقراطي نهاية خط ومسار لا نهاية أحداث، إذ بمجرد اكتمال النموذج ينتهي الخط السائد المهيمن ويولد من رحمه خط آخر ولا تخرج عن هذه الرؤية أية دولة أو حضارة أو مسار.. هذا التصور الذي يعد باراك أوباما من أشد المنبهرين به لم يكن فقط سليل كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وإنما نتاج فكر كامل تجسد خاصة في مؤلفات لها من العمق ما لا يقل عن هذا الكتاب ومن بينها «أمريكا على مفترق طرق:الديمقراطية, السلطة والمحافظون الجدد»، و»النظام السياسي والاضمجلال: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية»، و»أصول النظام السياسي»، و»مستقبلنا البعد بشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية»، و»الخلل الكبير: الطبيعة البشرية وإعادة بناء النظام الاجتماعي».
فرانسيس فوكوياما الذي يشغل عدداً من المناصب الاستشارية والعلمية لعل من بينها عضويته في مجلس الرئيس الأمريكي للأخلاقيات البيولوجية، ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، ومجلس إدارة الصندوق الوطني للديمقراطية، ومؤسسة أمريكا الجديدة، وهيئة تخطيط السياسات الخارجية بوزارة الخارجية الأمريكية وغيرها زمن أوباما.. هذا الرجل تجمعه بأوباما عديد المشتركات، فزيادة على مناصرته اللامشروطة لأبوباما أيام حملته الرئاسية فكلاهما ينحدر من عائلة وافدة تحت قهر الظروف إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فأوباما من أصول كينية إفريقية، ويوشيرو فرانسيس فوكوياما من عائلة يابانية، حيث فرَّ جده من الحرب اليابانية الروسية ليستقر بأمريكا، وكلاهما مهتم بتنوع الحضارات، فأوباما من جانب التثاقف الديني وفوكوياما من زاوية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أن لكليهما تصورًا واحدًا تجاه الديمقراطية الكلاسية، حيث يذهب كل منهما إلى ما عبَّر عنه فوكوياما بالواقعية الويلسنية، نسبة إلى الرئيس لودرو ويلسن، التي تقوم على بناء الحداثة الداخلية والتعامل بشكل مغاير مع الشأن الخارجي، حيث إن فوكوياما المساند بقوة للحرب الباردة ضد روسيا والمعتبر للحرب على أفغانستان لها مبرراتها بحكم هجوم القاعدة على أبراج التجارة العالمية إلا أن الحرب على العراق بحجة امتلاك أسلحة نووية أمر غير مبرر لسياسة خارجية أمريكية ديمقراطية، ويرى أن سياسة بوش الأول تحول لمفهوم الديمقراطية إلى ديمقراطية دكتاتورية تسلطية.. آراء فوكوياما استغلها أوباما أحسن استغلال في حملته ضد الجمهوريين، حيث أحرجهم بأطروحات فوكوياما الذي يعد في الثقافة الليبرالية الأمريكية المعاصرة ما يعادل ماركس ولينين في الثقافة الاشتراكية.. ففوكوياما الذي اشتغل بعمق على جدلية تحوير الطبيعة البشرية في المجتمعات العلمية المتطورة نقدًا يوحي بفتح باب لأهل العلم والسياسة والاقتصاد لم يكونوا مهتمين به، لذلك رأينا بعد سنوات من بروز كتابه «مستقبلنا البعد بشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية»، مشروع بالغيتس حول الشرائح التي ظاهرها التحكم المبكر في العوارض المرضية..
فوكوياما ليس مجرد رجل فلسفة وفكر سياسي واقتصادي، إنه خلفية فكرية يرى فيها أوباما واجهة نظرية وعليمية أعطته الثقل خلال انتخاباته الرئاسية وجعلته يسطر مخططاته في الشرق الأوسط وسياسة أمريكا الخارجية بشكل مختلف مما جعل الحزب الديمقراطي بعد ذلك بالرغم من فشله في عديد الملفات وفضائحه الشخصية يثق به كمحرك فعلي لقاطرة الحزب في انتخابات جو بايدن، فهل تتحقق في عهده رؤية فوكوياما بنهاية المسار الديمقراكي بكتمال مرحلته؟