عبدالوهاب الفايز
أستاذنا وأخونا الكبير خالد المالك، الذي ظلَّ في السنوات الماضية يتحمَّل الكثير من المتاعب والمعاناة الشخصية في سبيل المهنة الصحفية التي أحبها وأخلص لها، ما زال يتداخل في الإعلام عبر المقالات أو الحوارات التلفزيونية، حينما يرى الفرصة مناسبة لإثراء الحوار والتذكير بأهمية الالتفات لوضع المؤسسات الصحفية، وكل هدفه النبيل هو ألاَّ تتداعى وتنتهي مكتسبات مهنة صحفية سعودية بناها الرواد في الخمسين عامًا الماضية، وخرجت جيلاً من القيادات والكفاءات الإعلامية، وحققت كثيراً من المكتسبات الوطنية، وكانت في مقدمة الأجهزة والمؤسسات التي عاصرت التحولات المتتابعة الكبيرة لبلادنا، والأهم كانت دائمًا جزءًا من قصة النجاح التي ما زلنا نحققها.
والآن نرى واقعًا عمليًا لأهمية دورها وهي تواجه الهجمة الأمريكية الإعلامية على بلادنا وعلى سمو ولي العهد، بالذات دور كتابها الذين برزوا كقادة للرأي ممن ينتجون التحليل العميق للقضايا، ويشاركون في وسائل الإعلام المحلية والعالمية. الأسماء البارزة في وسائل التواصل الاجتماعي من الزملاء كتاب الصحف الحاليين أو السابقين، هؤلاء أتاحت لهم الصحافة الفرصة للمساهمة في تناول القضايا الوطنية، وتحولوا إلى منتجي محتوى راقٍ يتفاعل مع الأحداث ويدافع عن بلادنا في كل المنابر الإعلامية.
هذه المؤسسات، رغم عثراتها، إذا أجرينا عليها التحليل الرباعي لمعرفة نقاط القوة والضعف والتحديات والمخاطر نجد أن لديها (نقاط القوة) التي يمكن استثمارها والبناء عليها. الذي تحتاجه هو إطلاق برنامج إنقاذ للمؤسسات يحافظ على أصولها وسمعتها الصحفية، ويعزز فرصتها للاستفادة من الاستثمار في المحتوى الذي أصبح هو (منجم الاستثمار) الجديد مع تطور اقتصاد المعرفة، والانتقال إلى اقتصاد المشاركة. المؤسسات تحتاج إلى (نموذج تجاري جديد) يعيد اختراع طرق عملها بشكل واسع يتناسب مع ضرورات المرحلة الحالية وتحدياتها، فطرق وأساليب العمل الصحفي القديمة يجري تغييرها بشكل كبير، وهذا ما قامت به العديد من الصحف العالمية التي بدأت تعكس نتائجها المالية، وتتجه إلى الاستقرار المالي، والاستمرار في الإبداع والتطوير.
تعظيم المكتسبات الوطنية من الصحافة المحلية يتحقق إذا خرجنا من (الحالة الذهنية السلبية) التي تأسرنا، وبدأنا نفكر بإيجابية وواقعية، وتجردنا من الانحيازات النفسية حتى لا تجرفنا إلى الأهواء التي تحول دون بروز الآراء النقية، وقيل: (آفة الرأي الهوى!). وربما هذا الذي أقنع البعض منا أن وضع المؤسسات الصحفية عصي عن الحل. وقالوا لأنفسهم، مستعذبين الكسل: لا يصلح العطار ما أفسد الدهر!
استمرار الوضع الحالي للصحف متوقع لأنه ظل أسير وضع وزارة الإعلام. الوزارة منذ سنوات بعيدة أصبحت جزءًا من المشكلة القائمة لاعتبارات فنية موضوعية، فالوزارة قطاع عام ينحصر نطاق عملها في المتابعة والرقابة وتنفيذ الأعمال الروتينية المتوقعة من أجهزة القطاع العام، والهموم اليومية التشغيلية عادة تستحوذ على الجهد والوقت والتفكير، وبالتالي لن يكون للعاملين فيها القدرة على الخروج إلى دائرة الإبداع والتطوير واستشراف المستقبل.
وربما هذا الذي جعل الوزارة، في وقت مضى، بعيدة تمامًا عن إدراك التحولات الكبرى المستقبلية في صناعة الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، وانفجار التواصل الاجتماعي. الوزارة منظم للقطاع وتقترح التشريعات والمبادرات لرفع كفاءة القطاع، كما تفعل الآن العديد من الوزارات التي قدمت مبادرات ومشاريع نوعية تحقق مستهدفات الرؤية وبرامجها التنفيذية، وتقدم صورة حية لقدرة قيادات بلادنا على تقديم المنجزات التي تنفع الناس.
عدم القدرة الفنية المحترفة لدى الوزارة وانشغالاتها اليومية يلتقي معها أيضًا الصورة الذهنية السلبية التي تولدت عن المؤسسات الصحفية نتيجة تراجع أوضاعها، ليس فقط من بعض المسؤولين الحكوميين، أو عامة الناس، بل بعض ملاك المؤسسات الصحفية لديهم هذه التصورات، مما جعلهم يتقبلون تركها في حالها حتى تنتهي، أي أنهم يتشاركون مع الوزارة في المشكلة القائمة! لم نسمع عن جمعية عمومية عادية أو طارئة عُقدت لأجل إيجاد حل نوعي جريئ يتصدى للوضع القائم.
وهذا التصور السلبي للوضع القائم مقبول من مراقب للأحداث يشاهد ويعلق، ثم يلتفت حوله ليبحث عن حدث ساخن جديد ليواصل التعليق وكسب المتابعين.. هذا همه! ولكن، في المقابل، نستغرب حين تولد القناعة - أن المؤسسات الصحفية لا تحتاج إلى التدخل - لدى مسؤول في القطاع العام، واجبه ومسؤولياته الوظيفية تتطلب أن يتدخل - كرجل دولة وأيًا كان موقعه - ليقدم الحلول التي تخدم المصلحة العليا للدولة، ومصلحة كل الأطراف.
ربما القرار الحكومي الأسلم لمعالجة أوضاع المؤسسات الصحفية هو مبادرة وزارة الإعلام إلى رفع هذا الملف الوطني إلى مقام سمو ولي العهد - حفظه الله. المعروف جيدًا لنا جميعًا أن سموه حريص على استمرار وبقاء الثوابت التي قام عليها الحكم منذ تأسيس الدولة، ومن هذه الثوابت الاهتمام بكل ما له علاقة بالعلوم والفكر والأدب والثقافة والإعلام.
وهذا الاهتمام يعود إلى أن بلادنا كانت في سنواتها الأولى تتطلع إلى مشروع التنمية وبناء مقومات الدولة، والملك عبدالعزيز -رحمه الله- بحسه القيادي والسياسي والإصلاحي الكبير أدرك أن التنمية والبناء معركة جديدة، فهي (الجهاد الأكبر) الذي يتطلب جيش النخبة من أهل العلم والحل والعقد، وأهل الفكر والثقافة. وهكذا ظلت القناعة بأهمية مؤسسات الفكر والمعرفة والثقافة منذ عهد المؤسس إلى الوقت الحاضر. وهذه القناعة يتم تنفيذها عبر العديد من المبادرات والمشاريع لإدراك قياداتنا إلى أن عالمنا المعاصر ستكون حروبه القادمة فكرية وثقافية وطائفية. وهذا الاهتمام متوقع إذا تذكرنا أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، -حفظه الله- كأن حامي وداعم ملف الفكر والثقافة والإعلام في الحكومة لسنين طويلة، وهذا ينطلق من قناعاته بأهمية إثراء القرار الحكومي الوطني بكل الآراء والأفكار التي تستهدف المصلحة العامة.
إن وجود معالي وزير الإعلام المكلف الدكتور ماجد القصبي هو الذي يجعلنا نتطلع إلى أخذ الملف إلى أولويات الحكومة، فمعالي الدكتور ماجد قريب من الصحافة ومن همومها قبل أن يدخل الوزارة، فقد تربى في بيت فكر وثقافة وإعلام، فوالده -رحمه الله- عُرف مثقفًا وكاتبًا وصحفيًا، أكثر مما عرف به كتاجر أو رجل أعمال. وأجزم أن معاليه يعايش هموم الصحافة وتحدياتها، ولكنه وجد أمامه ملفًا مثقلاً بالمشاكل والاحتياجات، وتتداخل فيه الأمور الخاصة للمؤسسات وملاكها، مع الأولويات العامة للدولة مما يتطلب أن تبادر الوزارة وسريعًا لمعالجة الإشكالات الأساسية.
وثمة مبررات موضوعية لهذا الاقتراح أولها معرفتنا باهتمام القيادة السعودية بالمؤسسات الصحفية منتجة المعرفة والثقافة والفكرية والتعليمية والعلمية وبالذات الإعلامية. ثانيًا، الحكومة ليس لديها مشكلة مع المؤسسات الصحفية. هذه المؤسسات تواجه المشكلات الطبيعية للمنشآت التجارية. لديها تحديات رئيسة، أولها المشكلات المالية الناشئة من الديون لدى الدولة غير المحصلة، ولديها ضعف وقلة الموارد البشرية.. والتي أصبحت تشكل رأس المال الحقيقي في قطاع الخدمات.
هذه التحديات يمكن معالجتها بمبادرات إستراتيجية تقودها الحكومة عبر مشروع يتولى إعداده مختصون مستقلون مع قيادات جهات خاصة وعامة يستهدف إعادة الهيكلة للمؤسسات، وجلب الممارسات الناجحة للتحول إلى الإعلام الرقمي والتي طبقت وأنقذت الصحف في مناطق عدة من العالم، حيث أطلقت قدراتها وخبرة مواردها البشرية في إنتاج المحتوى العميق الراقي المحترف، وبالتالي حققت العوائد المالية العالية التي لا تجنيها بعض شركات النفط أو البنوك. والأهم أنها عظَّمت القيمة المضافة في اقتصاد بلادها، وأيضًا أصبحت مصدر تأثير وقوة سياسية في يد ملاكها ودولها. القيادة الإيجابية المحترفة تقلب التحديات إلى فرص!
تحدي المشاكل المالية يمكن معالجته بالآليات المتبعة مثل (إنشاء صندوق تمويل محوكم) يتم عبره استقبال كل أشكال الدعم المالي لإعادة بناء (وليس لإنقاذ) المؤسسات الصحفية فقط. أي يتوسع نطاق عمل المشروع لإعادة بناء منظومة الإعلام السعودي بشكل عام.
هذا الصندوق تبدأ الحكومة تمويله من مخصص الاستثمارات المحلية التي أعلن صندوق الاستثمارات العامة إنفاقها محليًا وقدرها 150 مليار ريال. في إستراتيجيته، الصندوق لديه هدف رئيس في مسار الاستثمارات المحلية وهو (تنمية وتطوير القطاعات الواعدة)، وتطوير قطاع الاتصالات والإعلام من القطاعات التي يستهدفها الصندوق، وهو من القطاعات الرئيسة التي أثبتت أنها أكثر من واعدة، بل هي مجال استقطاب المستثمرين، وتحقق مشاريعها هامش أرباح عالية جدًا.
وأيضًا آلية الصندوق تفتح مجال التمويل من أوقاف المؤسسات المانحة، فهذه لديها أصول تتجاوز 700 مليار ريال، وكثير من الواقفين تضمنت صكوكهم الوقفية شرط (الانفاق على الإعلام النافع). أيضًا يتاح عبر الصندوق استقبال التبرعات من التجار ومن الأفراد. والمختصون في الصناديق يعرفون كيف يضعون التكييف القانوني والمالي لاستقبال الأموال وإدارتها وحوكمة صرفها. لدينا الخبرات الوطنية القادرة على إدارة هذا الصندوق ليكون آلية جديدة لكفاءة إدارة الموارد المالية في قطاع الإعلام.
هذا الصندوق آلية مناسبة لمعالجة وضع المؤسسات الصحفية التي لا تستطيع أو لا يرغب ملاكها استمرارها كمؤسسات ربحية، وغير مستعدين لدعمها ماليًا، فقد يتم تحويلها إلى (شركات استثمار اجتماعي)، وهو الشكل الجديد لمنشآت القطاع الثالث. الشهر الماضي أعلنت 14 صحيفة أسبوعية في ولاية (نيو جيرسي) الأمريكية تحولها إلى هذا النموذج لإخراجها من عثراتها المالية ولحماية مكتسباتها، ولكي تحصل على الدعم والإعفاءات الضريبية. ربما نحتاج إلى تجربة هذا النموذج حتى تحقق الوسائل الإعلامية الاستدامة المالية، ويتحقق لها مساهمة الجمهور في دعمها، وهذا يجعلها أكثر التزامًا بمصالح الناس واحتياجاتهم الأساسية حتى يستمروا في الدعم والتمويل.
أيضًا الصندوق يتيح توفير التمويل لأجل تفعيل الهدف الذي قامت لأجله الهيئات الإعلامية، وهي: هيئة الاذاعة والتلفزيون، وهيئة وكالة الأنباء السعودية، وهيئة الإعلام المرئي والمسموع. هذه قامت لأجل الإشراف والتنظيم والتطوير للقطاعات الثلاثة وليس لإدارتها وتشغيلها. الهيئات نموذج عملها الأمثل أن تتحول إلى مؤسسات (قابضة) تركز على تطوير التشريعات وتقديم التمويل الضروري لتنمية الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة في الصناعة الإعلامية، وفتح فرص العمل. نطرح فكرة الصندوق لأن لدينا (فرصة ذهبية) للاستفادة من إستراتيجية صندوق الاستثمارات العامة الجديدة التي أعلنها سمو ولي العهد.
هذه الهيئات منذ أن قامت لم تقدم مبادرات نوعية وظلت في مستويات متواضعة لأنها بقيت تحت إدارة الوزارة وتداخلاتها ومشاكل تداول السلطة العليا فيها، وبقيت أقرب إلى الوكالة داخل الوزارة. الصلاحيات ونطاق العمل التي أعطاها قرار تأسيسها من مجلس الوزراء كان طموحًا ويهدف إلى تهيئة منظومة الإعلام السعودي لفرصة التطور والنمو ومواكبة تحديات الإعلام المستقبلية. رؤية الدولة وإرادتها كانت حاضرة وواضحة تمامًا، ولكن، مع الأسف، لم تتوفر الظروف المالية والإدارية والقيادات التي تستوعب هذه الرؤية وتستثمرها.
هذه الهيئات يعطيها نظامها الحق لإنشاء الكيانات الربحية وغير الربحية متعددة الأغراض. لذا، بيدها إنشاء العديد من الشركات الداعمة والمعززة لنشاطها والتي تعطيها الاستدامة المالية وتحقق الخروج من اعتمادات الميزانية الحكومية. هيئة الإذاعة أمامها فرصة لتحويل القنوات القائمة إلى شركات مرئية إعلامية مساهمة مغلقة متخصصة تجمع المستثمرين المبعثرين تحت مظلة شركة وطنية يتشاركون في إدارتها ويستفيدون من أرباحها. وقد تكون شركات وقفية، أي قطاع ثالث.
أيضًا وكالة الأنباء السعودية لديها المساحة لتقديم مبادرات استثمارية تنمي مواردها المالية حتى تتوسع في خدماتها وتطور مواردها البشرية. كذلك هيئة الإعلام المرئي كان، وما زال، أمامها فرصة لإنشاء شركات في الإنتاج المرئي، وإنشاء مركز أبحاث ودراسات في واقع الإعلام الجديد وتحدياته، حتى تطور خبرتها ومعرفتها في القطاع كجهة منظمة وراعية لمجال جديد عليها وعلينا، بالذات الألعاب والتواصل الاجتماعي. وهنا لا نلوم من كانوا في قيادة هذه الوكالات. ربما هذه الأمور كانت في أولوياتهم، ولكنها ليست في أولويات وزارة الإعلام.
إننا نظلم أنفسنا ونظلم الحكومة عندما نقول إنها لا توفر الموارد المالية للإعلام الوطني. بينما هي تنفق بسخاء باستثناء المؤسسات الصحفية لإيمانها بأهمية الدفاع عن بلادنا وعن مصالحنا العليا. وكما ذكرت، منذ قيام مشروع الوحدة وتأسيس الدولة، كان الإعلام محل اهتمام القيادة، والقناعة بأهمية الإعلام ليس فقط لخدمة النظام والاستقرار السياسي، بل لخدمة احتياجات التنمية الاجتماعية والثقافية، ولخدمة صناعة الإجماع الوطني الذي يكرس الوحدة. هذا مصدر الإنفاق بسخاء.. الهدف وطني وإنساني.
الصندوق المقترح، بالإضافة إلى توفير الاستدامة المالية، سوف يعطي للحكومة (الآلية الفنية الموضوعية) لمراقبة ومتابعة جودة المخرجات الإعلامية التي نحتاج إليها للدفاع عن مصالحنا، وتحتاج إليها التنمية الوطنية. والأهم: لكي يحمي مشروع تطوير الإعلام (الذي نحلم به) من الانحراف عن الأهداف الوطنية حتى لا تأخذه المطامع الشخصية كما حدث مع مشاريع إعلامية سابقة!
أجزم أن الإعلام والثقافة في الوقت الراهن توضع في إطار القضايا السيادية للدول أكثر من أي وقت مضى، لأنها أصبحت ترتبط بمقومات الأمن الوطني وضرورة الحفاظ على مكونات الشخصية الوطنية. لقد أدت العولمة إلى تمدد ونهوض وهيمنة الشركات عابرة القارات، والآن ثورة الإعلام والتوصيل الاجتماعي توجد الثقافات والهويات العابرة للحدود، وتوجد صراع الهويات في البلد الواحد.
إن رفع ملف وضع المؤسسات الصحفية إلى مقام سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ضرورة وطنية، وما كنا نتمنى أن تتدخل القيادة بهذا الملف، فنحن نعرف أن لديها جبالاً من التحديات والهموم المحلية والإقليمية والدولية، وأيضًا لم نرغب تدخلها لأن الحكومة يُفترض ألاَّ تتدخل في الشأن الإعلامي. ولكن للضرورة أحكام. الحكومة ظلت تتدخل في الإعلام لتحميه من نفسه، ولفترة طويلة حمته من التدخلات القضائية ذات الرؤية الخاصة للإعلام وتداول الرأي. الآن واجبها أن تحميه لأن لنا مصلحة وطنية من بقاء المؤسسات الصحفية وحيويتها وازدهارها. لقد أدى تراجع مساحة النشر في الصحف إلى تراجع دورها الوطني. فبسبب تقليص الصفحات وعدم القدرة على استقطاب الكتاب والمحررين، تراجعت مساهمة الصحافة في الشأن العام، فقد تقلصت مساحة الحوارات والنقاشات وطرح الأفكار والمقترحات، وفي سنوات قريبة مضت كان عدد الكتاب الذين يساهمون في الصحافة يصل عددهم إلى 500 أسبوعيًا، وهؤلاء فقط الكتاب المسجلون في قوائم النفقات الشهرية الثابتة. وكثير من هؤلاء كانوا متخصصين محترفين يناقشون ويحللون القضايا المطروحة في الشأن العام، وأيضًا يقترحون معالجة مشاكل وهموم الناس، وهموم القطاع الخاص، وهموم المجتمع الأهلي، وكانت الأجهزة الحكومية تتفاعل مع مخرجات هذا الحوار الوطني المستمر وتستفيد منها.
المؤسف أن هذا الانحسار لدور قادة الرأي المتخصصين والمحترفين وبالتالي تراجع وظيفة التنوير الحيوية للصحافة يأتي في مرحلة حراك وتحول كبير لبلادنا تحتاج إلى (كفاءة الاتصال وإدارة التغيير)، ويحتاج إليها التوجه إلى إدارة مستهدفات (الاقتصاد السلوكي) behavioral economics ، وهذا التخصص تتوسع تطبيقاته في مجال صنع السياسات العامة لاستثمار الترغيب والتحفيز المؤثر على السلوك البشري الذي يميل إلى العقلانية والرشد، وهذا نحتاج إليه مع توجهنا إلى إنتاج الثروة بدل الاعتماد على النفط، كما تطرح الرؤية وتستهدف.
الصحافة يمكن أن تكون قاطرة الحكومة لإحداث التغيير وتسهيله، والأهم إيصال المنجزات الحقيقية التي تحققها برامج الرؤية، ويحققها تطوير متطلبات الحكم الصالح مثل تعزيز قيم النزاهة ومحاربة الفساد وإرساء قيم العدالة، ويحققها أيضًا تطوير البيئة التشريعية والتنظيمية، فالجهود الكبيرة المبذولة حاليًا تحتاج إلى إدراك ومعرفة الناس لأهدافها ومنطلقاتها وتطلعاتها، فهذا يسهم في تسريع وتسهيل تطبيق الأنظمة وتأسيس هيبتها واحترامها.
لدينا الكثير مما يقال في هذا الشأن، ولكن حسبنا من الحديث ما فات.
- رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية سابقاً.
- رئيس تحرير صحيفة عرب نيوز سابقاً.
- رئيس تحرير صحيفة اليوم سابقاً.