أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: رحم الله الدكتور (غازي القصيبي)؛ فقد كان قارئاً جاداً كثير الاطّلاع سريع الفهم، مرهف الحسّ جداً إلى حدّ يقلقه ويمرضه.. قرأ باللغة الفصحى (لغته الأمّ)، وبلغته الثانية الإنجليزية: ما ترجم إلى هاتين اللغتين عن الشؤون العربية والإسلامية ككتاب (إعادة البناء) لغورباتشوف، وما كتبه الرئيس الأمريكي (ويلسون) عن الإسلام وإسرائيل والشرق الأوسط، وقرأ أبجديات الأديان ولا سيما اللاهوت الوضعي المفترى، وقرأ ما في هذه المصادر من تمهيد لتحيّف ديار العرب والمسلمين، وامتلاك خيراتهم، وإزهاق أرواحهم بسحر المعركة الفاصلة، وهي استيلاء الملك الداوودي على كلّ الشعوب بمعركة (هرمجدون) الخرافيّة التي أطلعت الحديث عنها، وهي التي خدع بها الصهاينة من اليهود أهل الكتاب الآخرين، ونتج عنها العلمانيّة، وحوار الأديان، وتصارع الحضارات، وسقوط الحضارات، والدولة العالمية الواحدة خلال ألفّ عام، وهلاك ثلثي البشرية كلّها في سفيح جبيل لا يتّسع لأكثر من ثلاثة آلاف رجل؛ فيا لله أين ذهبت عقول (الضالين) وكيف استحوذ عليهم ضلال (المغضوب عليهم؟!.. وكلّ هذه الأبجديات الهرمجدونيّة جاءت بالوصف لا بالاسم؛ فابتلاع العراق لم يأت باسم العراق، وصدام حسين، وعام كذا؛ وإنما جاء بالوصف لبدايات هرمجدون.. وكان أهل الكتاب الآخرون وقعوا في تضليل التأويل الوضعي الخرافي الكاذب لـ(سفر حزقيال)؛ فأعلن كل زعيم متنفّذ: أنّ حماية أمن (يهود الخزر)، وامتدادها: دينٌ في عنق كلّ مسيحي كما عند (ميتران) (وريقان) المنظّر من فقهاء البروتستانتية بعد أن تلاشت في الأمريكيتين (الكاثوليكية)، وتلاشت في أوربا (الأرثوذوكسية)، وبقيت (الكاثوليكية) في (روما) رمزاً، ولا قبل لها في مواجهة البروتستانتية (الصهوينية السبتية)، وبعد أن سقطت الإمبراطوريات الثلاث: (الأرثوذوكسية) و(الكاثوليكية)، (وكانتا متعاونتين على عناصر كريمة من مأثور كتابهم المقدس)، (والإسلامية) المصدّقة ما بين يديها من التوراة والإنجيل، الشاهدة على ما فيهما من تبديل، وتحريف الكلم من بعد مواضعه.
قال أبو عبدالرحمن: كنت كتبت خطاباً للدكتور (غازي) قبل ابتلاع العراق لمّا كان سفيراً للمملكة في لندن راجياً منه زيارتي في الرياض لإحياء ليلة ثقافية عندي في بيتي مقابل ما سبق من إحيائي ليلة عنده في لندن باسم طلبة دول الخليج.. وراجياً منه أيضاً المساهمة بمقالة لمجلة الدرعية، أو كتيّباً لدار ابن حزم، أو إذناً بطبع أحد كتبه مع الإذن بالتعليقات التي أجريها على مثل روايته (شقّة الحرية)؛ فجاءتني رسالته التشاؤميّة اليائسة بأنّ كتبه مطبوعة منتشرة، وأنها لا تستحق كلّ هذه العناية، صامتاً عن الإذن بنشر شيء منها.. وختم رسالته: بأنه محتجبٌ عن الوجبات الدسمة في المنتديات، مقتصرٌ على الوجبات الحافّة (أي بدون دسم، أو بدون زفر كما عند أهل الحجاز حماه الله).. ثم ختم بهذه العبارة اليائسة (إنّ العرب والمسلمين سيواجهون حرباً مخطّطاً لها من قوى العالم تستحوذ على بلدانهم وخيراتهم، وتزهق أرواحهم؛ فاستعد يا أبا عبدالرحمن لهذا الأمر الخطير الجلل، واحرص على أن لا تكون رأساً في هذه الفتن؛ فقد عهدتك مخبتاً تلجأ إلى الله بالدعاء، وأنا أغبطك على هذا).. وكان يرسل لي صدقات للمستحقين أصرفها بواسطة لجنة من الفضلاء يزورون بيوت المستحقين، ويصرفون للأولى فالأولى.. وقد عملت بنصيحته وشغلت بالكلام عن أحكام الشريعة المطهّرة، وعن فضيلة اللجوء إلى الله بالدعاء؛ لعلمي بأنّ الدعاء خير من الثناء، ولإيماني بأنّ الدعاء والثناء الصادق من غير تزلّف إلى نيل مطامع دنيوية، أو شهوة شعبية وتلميع، وأن الثناء الصادق عاجل بشرى المؤمن، وأنه ينال به شفاعة الداعي عند ربه الكريم حينما يقول سبحانه وتعالى (وجبت).. بخلاف الثناء السيىء عندما يقول الرب الكريم الذي كل أفعاله عدلٌ: (وجبت) أي النار.. وأمة محمد صلى الله عليه وسلم (أمّة الإجابة؛ لا أمّة الدعوة) شهداء على الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على أمّته؛ ولهذا فاضت عيناه الكريمتان عند قوله (حسبك)، وقد تلا عليه الصحابي الجليل رضي الله عنه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41) سورة النساء.
قال أبو عبدالرحمن: ووافى الأجل معالي الدكتور (غازي) مفاجئاً في وقت قصير، وأظن أنّ الله جعل من أسباب وفاته بتلك الصفة مشاعره النبيلة، وحسّه المرهف؛ فلم يصمد لمواجهة هذا الخطر المقبل على أمّته كما لم يتحمّل إيعاد من ماتوا بشهقة واحدة، وقد ذكرت بعض أخبارهم بكتابيّ: (خشوع الصحابة)، و(كيف يموت العشاق)؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -