د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لا أظن أن هناك ممن يقرأ العربية لا يعلم من هو امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المشهور. وليست شاعريته فحسب ما جعلته محورًا للمحللين والدارسين، مع خصائص شاعريته وجمالها، لكن أيضًا حياته المليئة بالأحداث، بين اللهو والمجون، والألم والشجون. ومثل هذه الأحداث والخطوب تتطلب قرارات بعيدة وآنية.
واسمه حندج بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي. وكندة قبيلة عربية يمانية مشهورة، ما زال بعض أبنائها يحمل هذا الاسم حتى يومنا الحاضر، منهم الأصدقاء والجيران. وامرؤ القيس يعني القوي، وهو أحد ألقابه. ولُقب بالملك الضليل. ويقال إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي لقبه بهذا اللقب، كما لُقب بذي القروح؛ لأنه أصيب بالجدري؛ فتقرح جسمه، ومات بسببه. والأغلب أنه وُلد في عام خمسمائة ميلادية، وتوفي في عام خمسمائة وأربعين. وقبيلته امتد ملكها من جنوب اليمن حتى نجد والبحرين. ووُلد في نجد عند أخواله من بني ثعلب؛ فأمه هي فاطمة بنت ربيعة، أخت المهلهل وكليب، من سادة تغلب، وعاش في دلال الملك ونعيمه.
ويبدو أن امرأ القيس لم يسِر سيرة آبائه وأجداده وأخواله وإخوانه، فاختط لنفسه بعد أن شبّ خطًّا مختلفًا، إما لجبلة جُبل عليها، أو موقف خفي لا نعلمه، وقد لا يعلمه هو، لكن ذلك الموقف جعله يذهب بعيدًا عما اعتاد عليه القوم، ويعيش حياة لهو وبذخ وغزو ونهب، وهو لا يحتاج إلى ذلك.
وكما كان سلوكه غير مألوف فإن شعره أيضًا ليس نمطيًّا مقارنة بغيره من بني عصره، ومنهم أصحاب المعلقات السبع الذين هو أحد أقطابها، وهم (لبيد، وزهير، وطرفة، وعنترة، والنابغة، والأعشى)؛ فقد أدخل الشعر إلى مخادع النساء، وكان يذكر الأسماء ولا يبالي، وهو أمر غير مقبول عند العرب؛ فلديه تشبيهات جديدة، وإنشاءات وتشابيب مخترعة، واستفسارات مبتكرة. ولو أن هناك حقوقًا للملكية الفكرية في زمانه لأمكنه تسجيل عدد لا بأس به.
اتخذ امرؤ القيس في حياته المثيرة عددًا من القرارات، منها الخاطئ، ومنها المقبول. وأول قرار خاطئ اتخذه كان في باكورة شبابه، واتجاهه إلى المجون، وجمعه لصعاليك العرب من بني عمه وأخواله، وغيرهم من القبائل، وكانت السيرة الذاتية لمن أراد أن يتقدم بها إلى امرئ القيس للانضمام إلى عمله المشين هي الصعلكة والتسكع والجتون والإدمان على الخمر، والاستعداد والقدرة على الغزو والنهب والسلب والفحش في الفعل والقول. وهو لا يشترط في تلك السيرة قبيلة بعينها، فذلك ليس شرطًا للانضمام. وقد دفع ذلك السلوك والده إلى إبعاده عن نجد إلى مدينة ديمون في حضرموت باليمن مقر قبيلته الرئيسي، وكان عمره آنذاك عشرين عامًا؛ لهذا فقد دفع ثمنًا لهذا القرار الخاطئ.
قرار آخر يمكن اعتباره مقبولاً بمعايير ذلك الزمان، هو الثأر لمقتل أبيه؛ فقد قتل بنو أسد والده غدرًا؛ فغضب غضبًا شديدًا، وقرر الأخذ بالثأر، لكن الأخذ بالثأر يحتاج إلى رجال، ومال، وعتاد، مع العزيمة ولا شك، فلجأ إلى أخواله من بني بكر وثعلب فزودوه بما يحتاج، وعندما علم بنو أسد بنيته هربوا ولجؤوا إلى قبيلة كنانة، فذهب إلى هناك مطاردًا أعداءه، لكنهم علموا قبل وصوله، وهربوا من عند كنانة، وهذا يدل على أن لهم أعينًا بلغتهم بقرب وصوله. وعند وصوله إلى كنانة أخذ في قتلهم ظنًّا أنهم بنو أسد، لكن عجوزًا كنانية أبلغته أنهم ليسوا من بني أسد، فتركهم، وأدرك بني أسد عند غدير ماء، وقتل منهم عددًا كبيرًا.
قرار آخر خاطئ في تلك الجملة المشهورة بعد أن علم بمقتل والده، وهو بين القيان، والقداح واللهو؛ إذ قال: «اليوم خمر وغدًا أمر، ضيعني صغيرًا وحمّلني دمه كبيرًا». وقراره الخاطئ في لوم والده على ضياعه صغيرًا، والحقيقة أن والده لم يضيعه، وهذا كلام غريب، بل هو الذي ضيع نفسه بخروجه عن القيم والأخلاق المتبعة في زمانه. وقد حاول والده جاهدًا ثنيه عن غيه، لكنه لم يرعوِ، ولم يثب إلى رشده، بل كان يمده بكل ما يحتاج إليه، وهو يلهو ويعبث. أما طرده إلى ديمون في حضرموت بذلك حتى لا يخسر القبائل في نجد التي يحكمها، وقد أسرف امرؤ القيس في التشبب ببناتهم، وذِكْر أسمائهن.
قرار خاطئ آخر، وذلك أن بني أسد قد عرضوا عليه تسليم بعض رجالهم وتعويضه ماديًّا على أن يُنهي الحرب، لكنه أبي، وأصر على مواصلة الحرب، فتفرق عنه أخواله من بني بكر وثعلب، وقد سئموا من حرب لا طائل من ورائها، وليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
قرار اجتهد فيه ولم يوفَّق، هو لجوؤه إلى الحاكم الروماني الشرقي البيزنطي جوسيسيان بعد أن ضاقت به السبل، وتفرق عنه الأقارب. ولم يكن قرارًا موفقًا؛ لأن جوسيسيان لا يهمه ما يجري بين العرب طالما أن ليس لديه مصلحة من أي قرار يتخذه. كما أن امرأ القيس ليس له تاريخ مجيد، بل من لهو ومجون إلى مطالبة بدم والده، فلا تعلم القبائل أو حتى جوسيسيان عن حنكته السياسية وقدرته على القيادة وجمع التحالفات التي يستمد منها الغساسنة وجوسيسيان، إضافة إلى أن المنذر بن ماء السماء في العراق لم يكن راضيًا عنه، والغساسنة في الشام لم يكونوا متحمسين لنصرته.
وفي نهاية المطاف عاد من قيصر دون أن يحقق طلبه، وأصيب بالجدري، وتوفي منه دون أن يحقق غايته. وهكذا الأيام، فليس كل ما يتمنى المرء يدركه.