لعل إشكالية القراءة النقدية لقصص (عبد الله الناصر) تكمن فيما تتسم به نصوصه من مراوغة ، إذ تتخطى لغتها حواجز التجربة الذاتية الملتحمة بواقع الحياة إلى أبعاد أخرى أعمق تصور مفاهيم إنسانية أعم وأشمل، وتشير إلى مواقف تأسيسية في سياق العلاقة بين الفرد والعالم ومحاولة تحديد دوره إزاء هذا العالم، وهو ما يتصل برسالته السامية في هذه الحياة ويشكل تصورًا يقوم على التوازن بين الجمال والمنفعة في الوقت ذاته.
غير أن الحدث القصصي عند (عبد الله الناصر) يتأسس من خلال المكان الذي يتحول في نصوصه إلى رئة تتنفس من خلالها هذه النصوص، مُعرِبة عن جميع طاقاتها من خلال التحام الكاتب بالمكان، وهو التحام يصل إلى حد الهوس منذ أن خط له والده حرفه الأول على الرمل؛ فامتزجت نفسه بهذا الرمل وأصبحت رائحته تعبق في أنفه أينما حل.
يقول الناصر في قصة «أشباح السراب» وهي القصة التي صار عنوانها عنواناً لمجموعته القصصية الأولى: « الشمس تلقي شواظ من لهيبها على المكان .. قبة السماء كرة من الصفيح الفضي المتوهج.. الجفاف المرعب يحيط بالمكان .. الشجيرات المتناثرة في شح وبؤس شاحبة تعلو أطرافها غبرة تشبه الموت .. أسافل الشجيرات لدنة كأنه بها رمق يدافع عن أصل الحياة والبقاء. عجيب أمر هذه الشجيرات كيف تكافح هذا الهجير والعطش والشمس الحارقة والسموم الذي كأنه يهب من أفران ذرية !! شجيرة الحرمل كانت الوحيدة في المكان والتي تبدو خضراء نضرة .. عجيب أيضاً أمر هذه الشجيرة .. كأنها شجرة الزقوم التي لا تنبت إلا في أصل الجحيم»، ويتجسد أثر المكان على (عبد الله الناصر) واضحًا في سياقات متعددة من كتاباته؛ فالقرية ومكوناتها طغت بشدة حتى هيمنت على أغلب قصصه؛ لدرجة أن هذه القرية التي تمثل بيئته المكانية الأصلية ترحل معه في كل مكان؛ فهو يوغل في ارتيادها حتى وإن كان بعيدًا عنها؛ كما أنه يرى هذه القرية ويسمع أصواتها حال ارتياده في أوروبا على نحو ما صور في قصة عنوانها: « الإيغال في ارتياد الأمكنة» : « الفندق الصغر - يضج بالنزلاء .. في البهو رائحة غريبة ليست بالكريهة ولا بالكريمة ولكنها ثقيلة على القلب والأنف والرئة، هنا كلاب ومطعم تتسرب منه رائحة قديد وحطب يتوهج في صدر الموقد . مقاعد الجلوس منضودة شكلها عتيق.. رأس الأيل الجبلي مثبت في الحائط ، تحته بندقية عتيقة وقوس هندي أحمر ولوحة لسهوب تتعارك فيها ثيران البافلو.
حيطان البهو اجتمعت فيها كل الأحقاب، البندقية المعلقة ذكرته ببندقية جده المعلقة في بيتهم الطيني القديم.
** **
- د. عبدالله المعطاني