د.عبدالله الغذامي
من مزرعة في الدرعية إلى بحيرة (لوخ) في اسكتلندا تمرّ ركائب عبد الله الناصر عابرةً لأمريكا فالجزائر ليستقر سنين عديدةً في لندن، ولكنه استقرار ظاهري فحسب فهو الذهن القلق بين حرقة الكلمات ولهيب الإبداع من جهة، وحرقة الضمير ذي المسؤولية الأخلاقية من جهة أخرى. وحين كان مشرفاً ثقافياً على جموع المبتعثين والمبتعثات لم يكن مديراً لعمل مكتبي كما هي طبيعة هذا النوع من العمل وإنما كان يعيش ظروف الطلبة والطالبات، ويعيش طموحهم ومشاعرهم، ويعيش الحالة الفردية لكل واحد منهم منذ أن تحط قدمه/ها في مطار هيثرو متصلاً مع كل لحظة تحول للطالب بين الدرس والغربة، وما يعتري ذلك من تغيرات في حالات الدراسة وتدرجاتها وحالات النفس البشرية حين تقع بين ضغوط الغربة وتحديات اللغة ثم تحديات التخصصات، وكل هذا قلق يومي عاشه عبد الله الناصر مع كل فرد من أفراد البعثة يخوض معهم تجاربهم كما ينبض بهم قلبه شعوراً وحساً. ولقد رأيته بنفسي وهو يستقل القطارات ما بين مدينة وقرية ومنطقة يمخر مع القطار الأرض والجبال والوديان لكي يقف على حالة طالب أو طالبة مرت به حالتهم حيث يحتاج أحدهم معها ليدٍ حانية وقلبٍ نابض يعينه على ظرف صحي أو نفسي أو معاشي. ومرة جاءني في الفندق يعتذر من مجالستي في ذلك اليوم وقد كنت حضرت لإلقاء محاضرة في تجمع علمي عن النقد الثقافي، ولكن ظرفاً لطالب في شمال إنجلاند استوجب من عبد الله الذهاب فوراً لتولي الأمر مع أنه في غنى عن ذلك من الناحية الرسمية وبيده أن يدير الأمر بالهاتف أو يكلف أي موظف عنده لكي يتولى المهمة وهذا هو المعتاد رسمياً إذ ليس على الملحق الثقافي إلا الجوانب الرسمية وهي مرتبة أصلاً بنظام سلكه كل من سبقوه في الملحقية ولكن أين لعبد الله الناصر أن يرتاح له قلب أو تنام له عين وهناك طالبة أو طالب في بقعة من بريطانيا أو أيرلندا عناهم من أمرهم ما سيعنيه، ولن تقر له نفس حتى يمتطي القطار ويكون بجانب من احتاج ليدٍ تمسك به لبر الأمان.
ذاك عبد الله الناصر الإنساني ومع الإنساني يأتي المعرفي والإبداعي فشغفه العلمي والإبداعي لن يتركاه، وهنا يتقاسمان عليه ضميره، ذاك الضمير المولع بالناس محبةً ومسؤولية والمولع بالكلمة إبداعاً وبالكلمة تاريخاً وذاكرة. ولذاكرة الكلمات عنده قصص لا تنتهي فقد ينشغل لأيام بحثاً عن جذر كلمة يسبح من أجلها بين المعاجم والموسوعات ليعرف سيرة المفردة وتحولاتها وكأن اللغة عهدة شخصية عنده يتعاهدها كما يتعاهد الطلاب في بعثاتهم فيبعث الكلمة من مراقدها مثلما يبعث الراويات وحكايات الأماكن والناس من مزارعين ومن قرويات وبدويات فيكتب قصص الأشياء والأماكن وأحاديث القرى، وقد صحبته مراراً في جولات في وادي حنيفة وأوقفني على كل حجر في الوادي وكل شجرة وكل منعطف وراح يروي حكاية الحجر والشجر والقرى وهي روايات عن ذاكرة الدرعية وباقي قرى الوادي إلى أن نصل لقبور شهداء حروب اليمامة وحروب مسيلمة حيث نقف مطلين على أرض المعركة في حروب الردة فيشرح خارطة الواقع وتموقعات جيش الإسلام قبالة جيش مسيلمة، ويرسم خطوطاً عن سير المعركة وتحولاتها بين كر وفر، ويتتبع آثار الأقدام حتى إنه مرة كشف عن عظام جثث الشهداء، تقف معه ومع ذاكرته الثرية وكأنك تشم روائح الصناديد الأبطال الذين أعادوا الأرض لتكون أرضاً ترمز للإسلام والسلام.
ومثل ذلك أوقفني على قصص نساء الدرعية وهن يدافعن عن شرفهن وشرف الأرض في مواجهة الجيوش التركية الغازية، وهي تقصف الدرعية بالمدافع وتدك أسوار المدينة من بعد حصار ودمار عم الأرض والنخيل ولوث المياه والآبار، وكان الرجال من أهل المدينة ينازلون الجيش العثماني، والنساء من داخل المدينة متراصات في صفوف المقاومة ومواجهة التسللات الخلفية والكيدية، وحاربت المرأة مع الرجل في تحدي الهجمات المتوالية التي تشنها جيوش الترك حتى إذا ما انهارت الأسوار وتحرك الترك نحو المدينة إذا بالنساء ينطلقن زرافات نحو الآبار ويتشابكن الأيدي ويتساقطن في حزم بشرية في قلب البئر ليموتنّ حمايةً لأعراضهن من جيش مجرم نوى هتك عرض الأرض وعرض النساء، فبقي شرف النساء وشرف ذاكرة الأرض مصاناً ببطولات مارستها النساء في المواجهة ثم ختمنها بميتة شريفة روى عبد الله الناصر قصتها بتفاصيله وكنا وقوفاً على البئر التي استقبلت أجساد الشريفات الماجدات، وتقبلت البئر الأمانة وصانتها ولن يسلم الشرف الرفيع حتى يراق على جوانبه الدم، وكان الدم هو عصام الشرف وحصانته.
هذا جانب من شرف الذاكرة وتاريخ المعاني سمعته من عبد الله الناصر وعرفت منه وبه قصص الدرعية العظيمة بصمودها والعظيمة بكسر تربصات العدو الذي لم يحفظ مروءة ولم يحفظ ديناً ولم يحفظ إنسانية، وهنا كان الموت شرفاً وتحدياً تاريخياً أعطى نتائجه بعد عقود حين عاد للأرض شرفها وعزها.
تلك قصص الأرض و أحاديثها وللضمير سيرته، وكلها وجدتها في ذاكرة عبد الله الناصر وعلى لسانه وتسرب بعضها إلى قلمه كتابة وإبداعاً.