فيصل خالد الخديدي
يتنامى العمل الفني لدى الفنان مع الاستمرار في الممارسة والسعي الدائم للتطوير على كل المستويات، سواء التقنية أو الفكرية، ويزداد ألقه بالصبر والتفاني والدقة والإتقان وشفافية الفنان مع طرحة ومعالجاته الموضوعاتية, والمعارض الشخصية للفنان تعد ثمرة ونتيجة محصلة لتجربة وفكر واجتهاد على تطوير ذات الفنان ومنجزه.
ولا يقدم الفنان مجموعة أعماله في معرض شخصي إلا بعد قناعة بمنجزه وجهد وفكر ومثابرة في ظهور أعماله بالمستوى الذي توصل إليه في اشتغالاته الفنية بمختلف مستوياتها.
والفنان عبدالله الدهري قدم في معرضه الشخصي الثالث الذي أقيم قبل أيام في صالة زوايا بجدة مجموعة أعمال فنية فاقت الأربعين عمل، محصلة لقرابة الثلاثين عاماً من العمل الدؤوب والتطوير المستمر لتجربته، استخدم في جُل الأعمال الألوان الزيتية في وفاء وحب واستمتاع وإتقان بالخامة، والذي أجاد في المحافظة على نضارة اللون وصفائه ومتانته من خلالها, فلم تعد الخامة عند الدهري وسيطاً بل أصبحت رفيق سهر ومتعة إنجاز وبوح أسرار لماهية الإتقان والإبداع بها وبتقنياتها, فخرجت مواضيعه التي تمحورت غالبيتها على المشاهدات الواقعية وبعض الفانتازية مدعمة بنضارة الخامة ودقة الإجادة وفيض المشاعر.
قدم الفنان عبدالله الدهري في معرضه الشخصي هذا، مجموعة أعمال بمواضيع إنسانية وتوثيق لمشاهدات من محيط وبيئة الفنان، فخرجت بصدق وشفافية وتعايش لجميع تفاصيلها، فحضرت الروحانية بشكل فياض في عدد من الأعمال التي جسدت مشاهدات من القرية، وتجلت الروحانية في أعظم صورها في أحد الأعمال، حيث صور الكعبة في الحرم المكي في أجواء باذخة بالسكون والروحانية. كما خاطب الفنان عاطفة الذكريات بنوافذ وأبواب من بيوت وقرى عتيقة، أتقن في إسقاطات الضوء والظلال، وإشعال الحنين في الروح قبل العين لمشاهدات هذه الأعمال، ولم يتوقف عند ذلك في مجموعة أعماله، بل تقدم إلى مرحلة أكثر إتقاناً ومستوى تجاوز مشاهدات العين إلى مخاطبة العقل وإشغاله بمشاهدات فوق الواقعية في عدد من الأعمال السريالية، والتي تطلبت منه إتقاناً واقعياً لتفاصيل التفاصيل، وحضور الغرائبية والفانتازية في مبالغات لم تكن نشازاً بل مقنعة حد الواقعية.
سلاسة انتقال الفنان عبدالله الدهري بين الأساليب الفنية في أعماله بمعرضه الشخصي لم تكن بالسهولة واليسر أن تتوفر لفنان آخر لا يملك إمكانات الدهري الفكرية والتقنية والنفسية، فمعالجاته اتسمت بالصبر والهدوء، والذي يخلق دهشة وتعلقاً من عين المشاهد وجميع حواسه في وقت واحد، فتمكنه وإتقانه جعلت سيره الرشيق بين الأساليب الفنية مقنعاً ومتقناً ولا يحتاج إلى تبرير أو تتبع، فمادة أعماله من محيطه البيئي والبشري فابنه مادة شهية لرسمه المباشر في أحد أعماله, ومقتنيات مرسمه مغرية لتوثيقها في أكثر من عمل بتركيبته الخاصة به وتراثيات المكان من أوانٍ ومبانٍ لم تكن غائبة عن رسمه المباشر والموثق لها، والطفولة والإنسانية حضرت في العديد من الأعمال المبهرة والمتقنة، فالفنان عبدالله الدهري امتلك أدواته الفنية، وأتقن في نقل تفاصيل أعماله باحترافية، وتمكن وتنامى في التجربة ليقدم باقة من ألوان مُحكمة ونظرة تشع بالحياة والجمال، لخصت تجربته الفنية وقدمت ثمرة جهود سنوات من عمل مستمر وتطوير دائم، فغدا معرضه باقة من جمال أخاذ متنوع الألوان مترابط المواضيع، يلخص رحلة بدأت من الواقع وتجاوزته لما بعده.