أحد المشاهد على اليوتيوب حصد أكثر من 160 مليون مشاهدة، وكان لطفلة تبكي بهستيرية بسبب ضفدع رماه والدها؛ ليصوّر ردة فعلها. وقام آخر بتصوير ابنته دون علمها وهي تتكلم بتلقائية، ولكن بطريقة غير مهذبة عن جدتها. وانتشر المقطع، وقُصفت الطفلة بوابل من الشتائم والتعليقات الناقدة، وحقق المقطع نسبة مشاهدات عالية، وعوائد مالية باهظة، وشهرة مزيفة. وفي الجانب الآخر طفل لم يبلغ السابعة من عمره، أسس قناة بمساعدة والده، ينشر فيها كل جديد يختص بلعب الأطفال. وجذبت القناة نحو 17 مليون متابع، ووصلت المشاهدات إلى 26 مليار مشاهدة. ووفقًا لفوربس، جنى هذا الطفل أكثر من 22 مليون دولار.
ومثل هذه الوقائع قد اتسع الجدل حولها الأمر الذي يتجاوز مسألة نوايا الأهل وأهدافهم على مواقع التواصل إلى قضية أساسية تتعلق بحق الإنسان (الطفل) في تقرير ما يتعلق بخصوصيته أو استقراره أو تحقيق طموحه، ذلك الأمر الذي وقف له العالم صفًّا واحدًا في لحظة من لحظات الوحدة العالمية التي التقى فيها قادة الدول سنة 1989 ليقطعوا لأطفال العالم عهدًا تاريخيًّا بحماية حقوقهم في وقت كانت فيه رياح التغيير قد عصفت بالنظام العالمي كله من سقوط جدار برلين، واندحار نظام الفصل العنصري، إلى بزوغ فجر الشبكة العنكبوتية العالمية التي ولدت مع ولادة اتفاقية حقوق الطفل.
المملكة العربية السعودية من الدول التي صادقت على هذه الاتفاقية، وأصدرت بشأنها القرارات والمراسيم، وعلى ضوئها أصبحت الدولة تطور في أنظمتها وقوانينها، وتوجد الآليات اللازمة لحماية الطفل من الإيذاء، وضمان حقوقه. وقد تضمنت اللائحة التنفيذية من نظام حماية الطفل في المادة الأولى معنى الإيذاء، وذكرت أنه كل شكل من أشكال الاستغلال، أو إساءة المعاملة الجسدية أو النفسية أو الجنسية، أو التهديد به، وأنه يدخل في إساءة المعاملة امتناع شخص أو تقصيره في الوفاء بواجباته أو التزاماته في توفير الحاجات الأساسية لشخص آخر من أفراد أسرته، أو ممن يترتب عليه شرعًا أو نظامًا توفير تلك الحاجات لهم. ثم نصت المادة الـ(13) من النظام نفسه على أنه «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن شهر، ولا تزيد على سنة، وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف ريال، ولا تزيد على 50 ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من ارتكب فعلاً من أفعال الإيذاء الواردة في المادة (1) من النظام، وأنه في حال العودة تضاعف العقوبة». على أن المقصود بالطفل في النظام «كل إنسان ذكرًا كان أو أنثى لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره».
ولكن يوجد ثمة تداخل كبير بين مصطلح «إساءة المعاملة» ومصطلح «الاستغلال». فإساءة المعاملة هي «عملية الاستعمال السيئ للشخص أو معاملته معاملة رديئة»، في حين أن معنى الاستغلال قد تطرقت اللائحة إلى تفسيره على أنه «قيام أي شخص باستخدام الطفل في أعمال مشروعة أو غير مشروعة مستغلاً صغر سنه أو طيشه أو هواه أو عدم خبرته أو عدم إيقاع العقوبة عليه».
وهنا لا بد من التوقف وتأمل مسألة (الحكم بتجريم تصرفات الوالدين مع أطفالهم على مواقع التواصل). وبتأمل النصوص وتأصيلها، وربط الأنظمة مع بعضها في سياق منتظم، نجد أن لفظ (أعمال) الواردة في تعريف الاستغلال لم تفسرها لائحة نظام الطفل بينما فسرها نظام العمل والعمال مبينًا ماهية العمل والمعايير التي يخضع لها عمل الأطفال. فالعمل المقصود به في نظام العمل هو «الجهد المبذول في النشاطات الإنسانية كافة تنفيذًا لعقد عمل (مكتوب أو غير مكتوب) بصرف النظر عن طبيعتها أو نوعها، صناعية كانت أو تجارية، أو زراعية، أو فنية، أو غيرها، عضلية كانت أو ذهنية». وقد حظر النظام عمل الأطفال وفق هذا التعريف دون سن 15 عامًا في جميع المهن. والحظر يشمل الأعمال المشروعة وغير المشروعة. وكذلك جرم استغلالهم اقتصاديًّا في أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيرًا ويعيق تعليمهم، أو ضارًّا بصحتهم ونموهم البدني والعقلي. كما صادقت المملكة على الاتفاقية الـ(138) في إطار تحديد الحد الأدنى لسن الأطفال الملتحقين بسوق العمل.
وعليه فتصرفات الطفل وأفعاله في مواقع التواصل الاجتماعي لا تخضع لنظام العمل وعقوباته، ولكنها من قبيل (تصرف الصبي) حسب ما قرره الفقهاء في مسألة تصرف الصغير المميز الذي أكمل سن السابعة، وغير المميز الذي لم يتم سن السابعة؛ إذ تناولوا التصرفات الصادرة عنه في باب المعاملات، وقسموها إلى تصرفات فعلية وتصرفات قولية. فالفعلية كالغصوب والإتلافات. وقالوا بوجوب ضمان ما أتلفه الصبي. والقولية إن صدرت من غير مميز فجميع تصرفاته باطلة لفقده أهلية الأداء أو التصرف؛ فلا يُعتبر رضاه ولا قصده، سواء أكان التصرف نافعًا له، أو ضارًّا به، أو مترددًا بين الضرر والنفع، فلا يصح عقده ولا إقراره، لكن إن صدرت من مميز فهي على ثلاثة أنواع: الأول: تصرف نافع له نفعًا محضًا، فيصح منه وينفذ بدون توقُّف على إجازة وليه أو وصيه، رعاية لجانب نفعه. والثاني: تصرف ضار به ضررًا محضًا، فإنه يبطل منه، ولا ينفذ ولا تصححه إجازة الولي. والثالث: تصرف متردد بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء، فإنه ينعقد منه موقوفًا على إجازة الولي. وقال الشافعية والحنابلة: تعتبر التصرفات المالية من الصبي مميزًا أو غير مميز باطلة. إلا أن الحنابلة قالوا بصحة تصرف المميز بإذن الولي، ويصح إقراره فيما أذن له فيه.
ومن المقرر عند الفقهاء أن للطفل ذمة مالية مستقلة عن والديه، فالأب ليس له أن يأخذ من مال ابنه كما يشاء مطلقًا، وإنما يباح له الأخذ من ماله بقدر حاجته. وذهب أحمد إلى أنه لا تشترط الحاجة لجواز أخذه، لكن لا يأخذ ما يجحف بالابن ولا ما يضر به ولا ما تعلقت به حاجة الولد، كما أنه لا يجوز أن يأخذ من مال ولده ليعطيه ولدًا آخر، فأموال الطفل حقٌّ له، لا يجوز لوليه أن يتصرف فيه بما لا حظ للطفل فيه كتصرفه بمال الصبي بهبة أو تبرع أو محاباة ضمن القدر الزائد عن الواجب. وللولي أن يستثمر أموال ابنه بالتصرفات التي يرى أن فيها مصلحة، ولا يجوز أن يتصرف ببيع الأموال المملوكة لابنه إلا بإذن القاضي.
وبناءً على ذلك فتجريم تصرفات الوالدين مع أطفالهم في مواقع التواصل الاجتماعي لا بد فيه من مراعاة حالتين:
الحالة الأولى: تصرف الصبي في برامج التواصل الاجتماعي إذا كان بمحض إرادته ورغبته، ولم يترتب على هذا التصرف أو التفاعل أي ضرر أو إيذاء أو إساءة لنفسه أو لغيره، أو كانت مشاركته فيها مصلحة ظاهرة، فهذا التصرف يكون بمنزلة مشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية، وعلى الوالدين مسؤولية التوجيه والإرشاد بما يتفق مع قدرات أطفالهم وما يعود للطفل من أموال متعلقة بمشاركاته، تكون له حسب تفصيل الفقهاء. وقد أوضحت ذلك المادة الـ(5) من اتفاقية حقوق الطفل، التي تضمنت مجموعة من البنود الرئيسية التي تختص بكفالة حقوق الطفل في المشاركة، ومنها (المواد: 12 - 13 - 14 - 15). فمثلاً نصت المادة الـ(13) على أن يكون للطفل الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها، دون أي اعتبار للحدود، سواء بالقول أو الكتابة أو الطباعة، أو الفن، أو بأية وسيلة أخرى يختارها الطفل. ويجوز إخضاع ممارسة هذا الحق لبعض القيود بشرط أن ينص القانون عليها، وأن تكون لازمة لتأمين ما يأتي:
أ - احترام حقوق الغير أو سمعتهم.
ب- حماية الأمن الوطني أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة.
وفي المادة الـ31: «تحترم الدول الأطراف وتعزز حق الطفل في المشاركة الكاملة في الحياة الثقافية والفنية، وتشجع على توفير فرص ملائمة ومتساوية للنشاط الثقافي والفني والاستجمامي وأنشطة أوقات الفراغ». ويلاحظ في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل أنها لا تحدد عمرًا أدنى لمشاركة الأطفال، ولكنها بدلاً من ذلك تشير إلى مراعاة قدرات الطفل المتطورة عند اتخاذ قرارات تؤثر في حياتهم.
الحالة الثانية: تصرف الصبي في مواقع التواصل بدون رغبته، وكان في ذلك إساءة له أو إهانة أو ضرر، سواء من النواحي النفسية أو الصحية أو العلمية، أو كان المحتوى مخلاً بالآداب العامة أو بمبادئ الشريعة الإسلامية، أو كان فيها تعدٍّ على مصلحة الغير، فإن ذلك يدخل في دائرة التجريم، ويخضع للعقوبات التي نص عليها نظام الجرائم المعلوماتية؛ إذ نصت المادة الـ6 منه: «يعاقب بالسجن خمس سنوات، وغرامة تصل إلى 3 ملايين ريال، أو بهما معًا، في حال كان المحتوى مما يدخل في إنتاج ما من شأنه المساس بالنظام العام، أو القيم الدينية، أو الآداب العامة، أو حرمة الحياة الخاصة... إلخ». كما يخضع للعقوبات المنصوص عليها في نظام حماية الطفل.
وبالتالي فإن استخدام الأطفال في تصوير مقاطع فيديو مسيئة له أو غير لائقة يعتبر استغلالاً لهم، ويرقى إلى الإيذاء المتعمد؛ وتطبق عليه العقوبة المناسبة لجريمته، ويتم استدعاء ولي أمر الطفل وإجباره على توقيع تعهد بحمايته. وفي حالة التكرار يكون للمسؤولين عن القضية الحق في اتخاذ تدابير أخرى مثل نقل حضانة الطفل إلى الحماية الاجتماعية.
ثم إن حماية الأطفال من سوء استعمال مواقع التواصل تستوجب وضع خطة متكاملة، يتشارك في تنفيذها القطاع الرسمي والقطاع الأهلي والقطاع الخاص متضمنة ثلاثة محاور: المحور التشريعي بسن أنظمة جديدة وتعديل البعض الآخر، والمحور التقني الذي يسمح بإعاقة وصول الأطفال إلى مواقع الخطر دون المس بحقهم في الاطلاع المعرفي، وكذلك تعطيل الحسابات التي يتم فيها الإساءة إلى الأطفال أو سوء استعمالهم عبر الإنترنت. والمحور التثقيفي الذي يعزز وعي الأطفال والشباب والأهل بالمخاطر التي تعيق النمو العاطفي والنفسي والجسدي للأطفال.
** **
أ.د. نورة بنت زيد الرشود - عضو هيئة التدريس بكلية الدراسات القضائية - جامعة أم القرى