د. جمال الراوي
ورد بأنَّ مجموعة من الأشخاص كانوا يسعون سويّةً لأمر ما، فسلكوا فيه بعض الطرق، فلم يتيسر لهم، ولكنهم اكتشفوا لاحقاً، بأنّ واحداً منهم نال وحده ما كانوا يبغونه لهم جميعاً، وفوجئوا بأنّه كان مُستثنى من بينهم، رغم أن شروط النجاح والقبول في الأمر كانت مُتشابهة ومتوفرة بالتساوي لديهم جميعاً، فسألوه عن السرِّ في ذلك، فلم يُجبْ، لكنهم عرفوا بأنه اتخذ لنفسه طريقاً آخر غير الذي سلكوه، ولم يشأ أن يدلّهم عليه، خوفاً من أن يؤثر ذلك على حظوظه في الحصول عليه، وحتى لا تتأثر وساطته، فاعترضوا على فعلته واعتبروها أنانيَّة مقصودة، فردَّ عليهم بهذا الحديث الشريف (اِسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الحَوَائِجِ بِالكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ محْسود)، ويُقال بأنَّ الرجل لم يستفد مما حصل عليه، وأن مشاكل كبيرة عصفت به وبعائلته لاحقاً!!
فمتى يُصبح الأمر أنانيّة، ومتى يجب أن نستعين على قضاء حوائجنا بالكتمان، ومتى يجب أن نُعلِن الأمر ولا نُخفيه؟! ومتى يجب الحديث عن أحوالنا، ومتى يجب علينا أن لا نكشف عن أسرار بيوتنا؟! ومتى علينا مشاركة الناس في أسرارنا، ومتى علينا أن نُخفيها؟!... والحالة السابقة، قد تعطي الإجابة عن جميع هذه التساؤلات، وترشدنا متى يكون الأمر أنانيّة مُفرِطة، ومتى يؤدي إذاعة الأسرار إلى مفسدة، ومتى تُصبح إذاعتها ضرورة.
والأنانيّة، هي حبّ الذات، ومحاولة استئثار المرء بالمزايا والمصالح لنفسه دون غيره، وقد تصبح نزعة للتسلّط والتملّك وتتجاوز حبّ الذات، لتصبح خطرة، لأنّها تترافق مع الغُرور والتكبّر واحتقار الآخرين، وهي سببُ فساد الأخلاق، وعاملُ هدمٍ للمُجتمعات، التي لا تُبنى إلاَّ على التعاون والمشاركة والتعاضد بين أفرادها، وهذه حال بعض مخلوقات الله، سبحانه وتعالى، من حيوانات وطيور، التي تعمل لأجل كياناتها ومجموعاتها، عملها جماعيٌّ ومنظم، ويتقاسم أفرادها الأدوار فيما بينهم، ويوزعون المهام بكلّ نظامٍ وترتيب، وهذا هو الشاعر «الصاوي شعلان» يصف حال النمل والنحل:
النَّمْلُ تَبَني قُرَاهَا فِي تَمَاسُكِهَا
وَالنِّحَلُ تَجْنِي رَحِيقَ الشَّهْدِ أَعْوَانا
أما الأناني، فهو امرؤٌ يحلل لنفسه كلَّ شيء ما دام يُحقق مصلحته، ولا يحبّ أنْ يشاركه أحدٌ فيما عنده!! وقد سمعنا قصصاً عن التنافس على الرزق بين التجَّار، فأحبط الله تجارتهم، فأضرّوا بأنفسهم جميعاً، وأذهب عنها البركة، فخسرت تجارتهم وخسروا بعضهم بعد أنْ خسروا أنفسهم... وقد سمعنا قصة عن صيدليٍّ، فتح آخر صيدلية قريبة منه، فبدأت المنافسة بينهما، وازداد التخاصم والتناحر، وجاءت لجنة متخصّصة لتحلَّ هذا الإشكال، وبدأت بقياس المسافة بين الصيدليتين، بحسب قوانين ممارسة الصيدلة، وبقي الجدال والصراع على الأمتار والسنتيمترات، وبقيت الصدور ممتلئة بالغيظ، والنفوس حانقة وغاضبة، فاختفت روح الزمالة والتآلف، وحلّت مكانها الشحناء والعداوة والحرب على تحصيل الرزق!!... والعجيب أنّ حالة مشابهة عن صَيادِلة اثنين، حدثت في المدينة نفسها، لم يفعلا ما فعله الآخران، فذكر بعض النّاس بأنّ رزقيهما أصبح وفيراً، وازداد أعداد المراجعين على الصيدلية الأولى أكثر من ذي قبل، وحلّت عليها البركة، وتضاعف العطاء والنماء.
فقد تكون مع مجموعة، تسْعون لأمرٍ ما، فتسمع نداءَ الأنانيّة وحبّ الذات يناديك من داخلك، ويدعوك للاستئثار به دونهم، فتنْزع نفسُك للانفصال عنهم واختيار طريقٍ آخر من دونهم!!... وقد تحصل عليه، وتتمتّع به من دونهم، لكنّ ضميرك لن يكون مرتاحاً، والبركة قلّما تحلّ عليه، وسوف تجد ما سعيت له وحدك، بدأ يخبو ويفقد أهميته مع مرور الأيام، هذا إذا ما انقلب ضدك، وأصبح وبالاً عليك، وغدا مِحنة تطلُب الخلاصَ منها فلا تستطيع!!
فإياك أنْ تظن بأنّ الأقدار السعيدة تتناقص حظوظها إذا شاركك الآخرون فيها!! وإياك أنْ تظنّ بأنّ الخير ضَيّقٌ لا يتّسع إلاَّ لك أو لخاصتّك!!... والعجب كلّ العجب ممن يهب هِبةً أو يقدّم معونة يستثني منها آخرين، ظنّاً منه بأنّها لا تسع غيرهم!!... وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُمنا معه، فقال أعرابيٌّ وهو في الصلاة: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلّم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: (لقَد حَجّرت وَاسِعاً)، أيْ أنْ الإعرابي أراد تضييق رحمة الله وفضله بينما هي أكبر وأوسع مما أراد.
فمن ظنّ بأنّ الرحمة لا تنزل إلاَّ عليه دون سواه، فقد خاب وخسِر!! ومن اعتقد بأنّها لا تسَعُ غيره فقد حجّر هذه الرحمة الواسعة!! ومن سعى في الخفاء يطلب أمراً خشية أنْ يُشاركه أحدٌ في الحصول عليه، فليعلم بأنّه قد يناله وحده، ولكنّه قد يتحوّل ليصبح فألَ سوءٍ عليه، بعد أنْ يزيل الله، سبحانه وتعالى، منه البركة، أو ينفضح أمره فيُصبح منبوذاً ومهجوراً ومطروداً!! وقد يأتي يومٌ يحتاج إلى العون والمساعدة فلا يجد من يقف معه!!... فمن يدري، فقد تتغيّر الأحوال وتنقلب الأيام، وتتبدّل الأقدار السعيدة وتتحوّل لتُصيب بعض الناس، وتنصرف عن آخرين كانوا بالأمس القريب ينْعمون بها، فتتركهم، حتى يدركوا بأنّ الحظوظَ والنِعم قدرٌ وتقديرٌ من الله، سبحانه وتعالى، فمن حَرص على دوامها بالشّكر لله، أدامها عليه.