عبدالباسط شاطرابي
لم يشأ التعليق على ما فعلته بي السنوات بعد أكثر من عقدين على آخر لقاء جمعنا. هكذا هو أبو نايف، قابلني بنفس ابتسامته الوسيمة.. أخذتُه بالأحضان على الطريقة السودانية غير مصدق أن الحياة تتيح لي فرصة لقاء جديدة بالصديق الأستاذ محمد الوعيل.
كان ذلك منذ نحو عامين، حين كتب الله لي مجددا العودة للرياض التي سكبت راضيًا أجمل سنوات عمري فيها. انقطاعي عن عروس العواصم امتد لعشر سنوات، تراكمت عليها سنوات أخَر من مفارقة أبي نايف، بعد أن كان قد حزم حقائبه مغادرًا مؤسسة الجزيرة للصحافة والنشر التي جمعتنا به كأحد قيادات التحرير فيها، متوجها صوب صحيفة (اليوم) بالدمام رئيسًا لتحريرها.
غمرني الرجل وقد جئته زائرًا في مكتبه الخاص، بدفء حديثه، وبفيض الذكريات العامرة بالتفاصيل عن أيام خوالٍ. نفس الصوت الدافئ العميق الذي عرفته في حضوره وفي مهاتفاته أثناء العمل قبل عقود. كان قلبي يهامسني بأن أبا نايف يملك صوت مذيع هادئ النبرات سهل التسلل إلى القلب. كنت دائما شغوفا بإيصال هذا الخاطر إليه. لماذا لم أقله له؟ كان ذلك أمرًا مؤجلًا لسانحة قد تتيحها لحظة فراغ من طواحين العمل.. لكنها سانحة لم تأت أبدًا!
افترقنا واجتمعنا خلال السنتين الأخيرتين بعد أن تناءت بيننا الدروب طويلًا. نهلتُ مرة أخرى من لطفه وسماحة نفسه وثقافته وذكائه الاجتماعي الوقاد. لم يكن أبدا ممن يؤانسون الآخر إلا بشؤون تهم هذا الآخر، لا يتحدث عن نفسه إلا حين يلح محدثه في السؤال، ويتعامل بتواضع مع أصدقائه محافظا على قلب طفل مفعم بالوداد تجاه هؤلاء الأصدقاء تعاملًا لطيفا ومحبة بلا شواطئ.
محمد الوعيل شخصية فريدة في أفقه المتسع وقدرته الفذة على الوصول لأهدافه، هدوؤه يهزم انفعاله، تطربه الإنجازات التحريرية فيكافئ من يحققها تشجيعًا وتقديرًا.. يتولى توصيل أفكاره بوضوح لمن يعملون تحت قيادته التحريرية.. لا يترك الأشياء للصدف، ويعرف دائما موقع أقدامه التي قادته من محرر صغير إلى كرسي رئاسة التحرير في أكثر من صحيفة.
أحد أسرار النجاح في شخصية الأستاذ محمد الوعيل قدرته المدهشة على الاستماع. كان دائم الإنصات للآخرين، تبرق عيناه وهو يستقبل الخبر والمعلومة والملاحظة وحتى الطرفة، ويتعامل بقلب مفتوح مع محيطه العملي.. مع قدرة عجيبة على حفظ الخطوط.. فلا شيء يتداخل سلبًا مع شيء آخر في دوامة العمل الراكض دون توقف.
فجأة وعلى غير سابق موعد.. استيقظنا على ما جرى. لم يكن الأمر مزحة عابرة من أبي نايف السمح البار بأصدقائه ومعارفه وزملائه ومرؤوسيه. كانت الفجيعة حاضرة هذه المرة بكل براثنها وأنيابها الناشبة في الكبد.
طوى أبو نايف صفحة الرحلة، ولبى نداء ربه راضيًا مرضيًا بإذنه تعالى، ملوّحًا بكلتا يديه ومودعًا دار الفناء، متطلعًا لرحمن غفار رحيم، وجنة عرضها السماوات والأرض تجمعه بين أفيائها ونعيمها.
ستبقى فجيعتنا نازفة بفراقك إلى أن نلقاك يا أبا نايف.
لا حول ولا قوة إلا بالله.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.