د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
من أبرز مناظرات العصر مناظرةٌ مشهودةٌ في معرض كتاب القاهرة – يناير «كانون الثاني» 1992م - أدارها الدكتور سمير سرحان بين المشايخ والدكاترة: محمد الغزالي ومأمون الهضيبي ومحمد عمارة من جانب، وفرج فودة ومحمد أحمد خلف الله من جانبٍ آخر، وإطارها «الدولة الدينية والمدنية» وربما كانت سببًا أُضيف إلى كتاب فودة «الحقيقة الغائبة» أديَّا إلى اغتياله في شهر يونيو «حزيران» عام 1992م، أي بعد خمسة أشهر من الندوة التي لم تخلُ من هدوءٍ وحِدة، وفيها أكّد «عمارة» بصوته الحازم أنْ ليست هناك دولةٌ دينية وأخرى مدنية؛ فإما دينية أو غيرُ دينية، وتفاعل «فودة» وقال في لمزٍ بيِّن: «لو لم نكن في دولة مدنية لما خرجتم من هذه المناظرة ورؤوسُكم فوق أعناقكم»، وقد أُتيحت المناظرةُ مؤخرًا عبر «اليوتيوب»، رحم الله الجميع.
** مضى ثلاثون عامًا على هذه الحادثة تبدلت خلالها المعادلات الثقافية، واختلفت التوجهات السياسية، وصار الناسُ أكثر تسامحًا، والحوارُ أوسع مدىً، وامتلأت الوسائط الرقمية بكثيرٍ من الجدل دون خوفٍ أو حيف؛ فامتلكوا الحق في الحقيقة، وتراجعت لغة الوعيد، وحل التفكير محل التكفير، والمقارنة بين الـ»ما قبل» والـ»ما بعد» مؤشرٌ على استلال شيءٍ من سخائم النفوس وفتح الفضاء للرؤى والمترائين، وإن لم يخلُ الاستعلاءُ الذي يمثله الطيفُ المنتصر من استعداء.
** وفي أمسٍ قريبٍ اعتذر صاحبكم عن أكثرَ من حوار ثقافي منظمٍ في أجواءٍ مقفلةٍ؛ فالمدعوون مُحدَّدون، والترتيبات رسمية، والموضوعات منمّطة، وتمنى حينها أن يُجمعَ من استُهدفوا في اتجاهات «اللبرلة والتقليد والاعتدال» في موقعٍ مفتوح؛ فلا قيمة لهذه الحوارات إن لم تعقد في ساحاتٍ علنية يحق للجميع ارتيادُها، ويتوفر التفكيرُ الحرُّ خلالها، ويذكر في أمسٍ أقربَ أنه شارك في مهرجانٍ ثقافيٍ - خارج الأندية الأدبية - وفُرض في إحدى دوراته إلغاءُ استضافة أحد المنتدين المقرَّرين الموافق عليهم مسبقًا لاعتراض ثلةٍ عليه، وقد اقتُرح استبدالُه فآثر صاحبكم - حين طُلبت مشورته - عدمَ الاستجابة واختتامَ الفعاليات، وهكذا كان.
** انطلق في مواقفه من إيمانه بضرورة خروج الأفكار للنور؛ فأَن تكون تحت الشمس خيرٌ من أن تقتعد الظلّ، كما الظل أنقى من الظلمة، وليس وراء الظلمة موقع، وما دامت القضايا ثقافيةً تحت مظلة العقل والنقل والتعددية الفكرية فلم لا تشترك فيها الجماهير ليعتادوا سماع الرأي ومقابلِه من غير حكمٍ أو تحكم، ولا يعني وجودُ من لا يألفُها إنكارَها، بل المفترض تكرارُها، وعدم الاستسلامَ لإملاءات التحيز من أيِّ طرف.
** المناظراتُ بطبيعتها حكايات، وفيها استفهاماتٌ لا تنتظر الإجابة وإجاباتٌ تقبل الجدل، وحوارٌ وشجار، ويكفيها أن تغشى الذهن فلا تغلقه، وتناوره فتحاوره، ثم تغادره بسلام وتعود إليه بهدوء، وتتاحُ فتباح ولا تُستباح؛ فلا تطفئوا الشمس ولا تستطيبوا الهمس.
** لا ثبات لمتحرك.