اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
كما هو معروف بأن المزاح ينقسم إلى قسمين، أحدهما مشروع، والآخر ممنوع. والمزاح المشروع يكون بقدر الحاجة بحيث يبقى في حدود المباسطة ومداعبة الآخرين عن طريق التلطف والاستعطاف بعيداً عن الأذى والسخرية، وما يعنيه ذلك من إدخال السرور على نفس الممزوح معه ومداعبته وفقاً للضوابط المشروعة، حيث إن النفس البشرية في البيئة الجدية تكون عرضة للمتاعب ومكابدة المصاعب ومشاق الحياة؛ الأمر الذي يجعلها تحتاج إلى ما يروح عنها، ويجلب لها الأنس، ويزيل عنها الهم.
ونظراً لأن المرء في معظم شؤون حياته يتصرف بجدية، تفرض عليه الاجتهاد والعمل بعزم وحزم، فإن نفسه قد يعتريها شيء من الملل والسأم في هذه الدائرة المفعمة بالجدية والمثابرة نتيجة لما يصادفها من التعب والنصب، وما يترتب على ذلك من المنغصات والمثبطات التي تضيق بها النفس، وتورث الملل؛ مما يجعل الإنسان في أشد الحاجة إلى ما يجدد نشاطه، ويجلب الراحة والانبساط إلى نفسه عن طريق اللجوء إلى شيء من المزاح المباح في أضيق نطاق، وضمن حدود الأخلاق.
والمزاح المقبول عادة ما يكون بين الأهل والإخوان والأصحاب بهدف الترويح عن النفس، وإزالة الوحشة من خلال تطييب نفس الممزوح معه، ومؤانسته، شريطة أن يكون ذلك على قدر ما تدعو إليه الحاجة من المطايبات والمداعبات التي تكمن قيمتها في حسن اختيارها وندرتها، وعدم المداومة عليها، مع الحرص على أن لا يتجاوز المزاح حده، أو يطول أمده، أو ينزل إلى المستوى المنهي عنه، بل يتعين أن يكون المزاح في الكلام بقدر الملح في الطعام نظراً إلى أنه إذا ما زاد أي منهما عن الحاجة أفسد بدلاً من أن يصلح؛ فزيادة المزاح تشوّه الكلام، وتجلب الآثام، وزيادة الملح تفسد الطعام.
وترتيباً على ما سبق فإن المزاح المشروع هو ما كان نادر الحدوث، منسجماً مع الهدي النبوي، ومغلفاً بغلاف من الأدب، بحيث يكون لطيفاً في معناه، نظيفاً في مغزاه، نائياً عن كل ما يسيء إلى الدين أو يؤذي الآخرين، خالياً من السخرية والاستهزاء والفحش والغيبة والكذب والمجون والهزل، وكل ما ينال من شخصية الذي يمزح، أو يجرح شعور الممزوح معه، ويتعدى على هيبة أهل الهيبة.
ومن هذا المنطلق فإن المزاح المباح عبر التباسط المشروع على نحو يكبح جماح مغريات الانحدار نحو الممنوع هو المزاح المحمود الذي يؤدي إلى ترويح القلوب، والاستئناس المطلوب، مضبوطاً بعدد من الضوابط المتمثلة في التقليل منه، واختيار زمانه ومكانه، وأن يكون المزاح مع من يرتاح له، مع بقائه في دائرة الحق بعيداً عن دائرة المحرمات والمفاسد.
والواقع أن الدعابة المشروعة تُعدُّ حكمة، تفرض على المداعب استخدامها كما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، واحتبار الشخص الذي يمزح معه، مع الاعتدال في المزاح، واتباع الأسلوب الأمثل الذي كان يتبعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما يمزح مع أهله وأصحابه حيث كان يمزح بلطف وأدب رافعاً الكلفة بينه وبين الذي يمازحه، ومدخلاً السرور على نفسه دون أن يكون في ذلك ما يجرح المشاعر، أو يؤذي الممزوح معه، بل يحرص على زرع المودة والألفة من خلال أسلوب المباسطة والتلطف لنشر الأنس، ورسم الابتسامة، انطلاقاً من أنه - عليه الصلاة والسلام - يمزح ولا يقول إلا حقاً، وهو الذي يمثل القدوة والمرجع الأول في حسن الأسوة.
وأفضل ملاطفة هي ملاطفة الرجل أهله وأطفاله، ومداعبته إخوانه وأصحابه، بغية إدخال السرور على النفس بصورة صحيحة، وفي بيئة مريحة، مع عدم الإفراط في المزاح، واتخاذه حرفة وصفة لازمة؛ لأن ذلك يُخرج المزاح من دائرة الحق والغاية المطلوبة من ورائه إلى دائرة الباطل والمفاسد. والتأسي بسيد الخلق وأصحابه كفيل بضبط المزاح ولجم عنانه؛ لكي يبقى في الإطار المشروع والقالب المباح على النحو الذي يصونه من الهبوط إلى المزاح المبغوض، أو السقوط في هاوية المزاح المرفوض.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتباسط بمزحه، ويتواضع به معطياً دروساً لأمته، كما أنه لا يقول إلا حقاً لأنه معصوم من الزلل في القول والفعل، ومزحه عادة ما يكون في أندر الأحوال لتطييب نفس الممزوح معه، ورفع معنويته، خاصة النساء والأطفال لمعالجة حالة الضعف عند هذه الفئة من غير هزل. ومن أمثلة ذلك أن عجوزاً أتت إليه - عليه الصلاة والسلام -، وقالت له: يا رسول الله، ادع لي بدخول الجنة. فقال: «إن الجنة لا يدخلها عجوز». فذهبت وهي تبكي؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز» إن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ} سورة الواقعة.
ومن الأوقات التي لا تذهب سدى ملاطفة الرجل لأهله وأطفاله اقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - ضمن الضوابط الشرعية والحدود والقيود المرعية، كما كان يفعل عمر بن الخطاب مع أسرته حيث يقول: «إنه ليعجبني أن يكون الرجل في بيته مثل الصبي، وإذا خرج يكون رجلاً». وكان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، ومن أكثرهم وقاراً إذا خرج. وقال علي بن أبي طالب: «لا بأس بالفكاهة يخرج منها الرجل عن جد العبوس». وقال: «أجموا هذه القلوب؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان». وكان العباس يقول: «مزح رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فصار المزح سنة». وقيل لسفيان بن عيينه: المزاح هجنة؟ فقال: «بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه في مواضعه». وقال الشاعر:
أفد طبعك المكدود بالجد راحة
يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح