د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عالم وقاضٍ، وشاعر، وأديب، وُلد في أغمات بالقرب من مراكش بالمغرب، وعاش في زمن الموحدين. وأغمات هي المدينة التي سُجن فيها حاكم اشبيلية وشاعرها الغني عن التعريف المعتمد بن عباد، وفيها زارته زوجته وبناته في سجن أغمات، فقال تلك الأبيات التي تُجري الدموع، وتدمي القلوب، حيث قال:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا
فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً
يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً
أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ
كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا
لا خَدَّ إِلّا تَشكّى الجَدبَ ظاهِرهُ
وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا
أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ
فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا
قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلاً
فرَدّكَ الدَهرُ مَنهيّاً وَمأمورا
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ
فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
نعود لشاعرنا أبو حفص، بعد أن جرّنا ذكر أغمات إلى المعتمد بن عباد، الذي تذكّرنا به كل الأماكن والأشعار. وأبو حفص تولى القضاء في مراكش وفاس وأشبيلية. وما يجعلنا نتوقف عنده هو خصائصه الشخصية والشعرية، فهو يحب أن يعيش عمره كأرستقراطي، يستمتع بالحياة، دون فسق أو خلل سلوكي، وكان منزله من أرقى المنازل في مراكش، وكانت رائحة الطيب تفوح منه في كل وقت وزمان ومكان، حتى أنه يملأ الطريق الذي يسير فيه برائحة الطيب، فيعلم المارة أن القاضي قد سار في هذا الطريق أو ذاك. وهذه في ظني خصلة حميدة، وعادة حسنة، فرائحة الطيب تريح القلب، وتجلب السعادة.
كان شعره غالباً في غرضين: المدح والغزل. أما المدح فتلك وسيلة وأداة يتقرب بها الشعراء للسلاطين في ذلك الزمان وغيره، فما بالك بشاعر مميز، يحتل منصباً، يريد أن يحافظ عليه، أو قد يكون مدحه للسلطان - ولاسيما يعقوب المنصور - نابعاً من قلب صادق؛ لما يرى فيه من الخصال الحميدة ما يحفزه على قول الشعر، وهو في الواقع أبرز سلاطين الموحدين، وأعظمهم شأناً، وقد أمر ببناء مدينة الرباط الخالدة حتى الآن، والعاصمة الحالية للمملكة المغربية الشقيقة.
لنتقلب في شعر هذا القاضي المميز لنستمتع بجمال شعره، وعمق معانية في الوصف الظاهر والباطن، وروعة التشبيه والاستعارة والكناية. ففي إحدى قصائده التي سأختار منها بعض الأبيات، يقول:
يخاف الناس مقلتها سواها
أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باكٍ
وتحت الشمس ينسكب الغمام
سأتوقف عند هذين البيتين، كما توقف عندها ابن سعيد، وقال عنها: لقد اشتُهر هذان البيتان في الشرق والغرب. كما ذكر أن لهذا القاضي أشعاراً مما هو داخل في كنوز المعاني، فهو يقول في البيتين إن الناس تخاف مقلتيها ما عدا نفسها؛ لأن مقلتها كسيف، ولا يمكن لقلب حامل السيف أن يذعر ويخاف من السيف الذي يتقلده. وفي البيت الثاني يقول إن طرفه - أي عينيه - قد نظر إليها وهو يبكي، وهي كالشمس وتحت الشمس لا بد أن ينسكب العرق. ما أجمله من تشبيه وسبك.
لكن القاضي أو حفص مع عفافه يقول في شعره ما يقوله الشعراء أمثاله، ولم يحرجه منصبه عن الاستماع بقول الشعر، ووصف النساء وصفاً جميلاً دون قيود، حيث قال:
مشت كالغصن يثنيه النسيم
ويعدوه النسيم فيستقيم
لها ردف تعلق في لطيف
وذاك الردف لي ولها ظلوم
يعذبني إذا فكرت فيه
ويتعبها إذا راحت تقوم
لقد أبدع القاضي أبو حفص في هذا الوصف فقد صورها كأنما هي غصن ينثني حتى إذا مر به النسيم استقام، لكن ذلك الغصن ليس كالغصون؛ فهو غصن بشري أنثوي، فمن بصفها تتمتع بردف كبير متعلق في خصر نحيف رقيق، لكن هذا التركيب الجسمي البديع يعذب القاضي إذا فكر فيه، ومن المؤكد أنه يتعب غيره، لكنه في الوقت ذاته يتعبها إذا أرادت القيام لكبره ونحافة الغصن الحامل له.
وأوصافه جميلة بديعة، لكن مثل هذا الشعر الرائع لم يكن مقبولاً من قاضٍ عند العامة وبعض العلماء؛ فألحوا على السلطان يعقوب المنصور أن يعفيه من منصبه. ومع الإلحاح نقله السلطان إلى أشبيلية ليكون قاضياً بها، وهناك سيجد القاضي مساحة من التسامح، ومناظر طبيعية وبشرية تحفز شاعريته، وتمتع ناظريه.
لقد كان القاضي أبو حفص عادلاً جداً في قضائه، حليماً، مستمعاً جيداً للخصوم، لا يرفع صوته، ولا تستفزه ملاحات الخصوم، ويظل في مجلس القضاء في هدوء دون أن يغضب أبداً، ويتحرى الصواب ويحكم به. إن أبا حفص فريد في عدله، وخلقه، وعفته، وحلمه، وجمال مظهره، وملبسه، وروائحه الزكية التي يملأ بها المنزل والشارع ومجلس القضاء، لكن تلك الصفات الحميدة لم تشفع له، ولم تحمِه من ألسنة المتطفلين والمتدخلين في كل شأن آخذين عليه ملاحة شعره وقوله ووصفه. وقد توفي القاضي فجأة دون مرض رحمه الله رحمة واسعة.