د. جمال الراوي
الكذبُ من أشدّ مساوئ النفس الإنسانية، قد يلجأ إليه الإنسان بسبب دوافع كثيرة، إما بسبب الخوف من انكشاف الحقيقة، التي يظنها ستضره كثيراً، ولا يدري أن ضرر الكذب أكثر من كشف الحقيقة، خاصة أنه - غالباً - ما يضطر إلى غزل حبل الكذب بطريقة غير متقنة، مما يؤدي به للوقوع في أزماتٍ نفسية حادة عند انكشاف كذبته. وهو حتى إن استطاع إخفاء كذبته، ولم ينكشف أمرها، فسيبقى حبيساً لها، تطل إليه برأسها من فترة إلى أخرى، فيحاول كل مرة إخفاءها والتستر عليها!!.. وقد يكون الدافع للكذب الحصول على مصلحة، وهذا ما نراه ونشهده من أصحاب المهن والوظائف الذين يدعون الخبرة والكفاءة في أعمالهم، ولكن ما إن يمضي وقت قصير حتى تنكشف حقيقتهم؛ فتنقلب المصلحة إلى خصومة وعداوة وشحناء، وقد تؤدي إلى المحاكم!!.. وقد يكذب الطفل على والديه خشية العقوبة، وهذا هو أخطر أنواع الكذب، وهو بداية لتنشئة إنسان لا يحمل أية مسؤولية في جميع قراراته وأعماله وتصرفاته؛ فيقع في الفشل في حياته؛ فينوي إصلاح ما فات؛ ليجد أن لا سبيل إلى ذلك؛ فيعيش طوال حياته مقهوراً وذليلاً.
في حقيقة الأمر، معظم المصائب والمشاكل الاجتماعية سببها الكذب، وهي - عادة - ما تترافق مع تفكك الأسر، مع زعزعة في العلاقات بين الناس أو في العائلة الواحدة، وتؤدي إلى جرح الثقة لتصل إلى مرحلة، يحصل معها تباعدٌ بين النفوس، وجفاءٌ في القلوب. وكثيراً ما سمعنا عن أسر تحطمت وتناثرت بسبب كذبة واحدة!!.. وكم سمعنا عن صداقات وعلاقات ود واحترام انفصمت عُراها بسبب كذبة واحدة، وأدّت إلى تباعد تام لا عودة فيه!!.. وكم شهدنا من حوادث طلاق وفراق بين زوجين بسبب كذبة اصطنعتها الزوجة أو قالها الزوج!!.. وكم من خسائر مالية وإفلاس شركات ومؤسسات تجارية، سمعنا بها؛ لأن قواعدها وأسسها كانت مبنيّة على كذبة، مع إخفاء حقائق لجأ إليها أحد الشركاء!!
«حَبلُ الكذب قصيرٌ»، مقولةٌ أو مثلٌ يتداوله الناس فيما بينهم، ويذكرون أنّ عاملاً كان يعمل لدى تاجرٍ في بغداد، قام بسرقة صرَّة من الدراهم، وحاول التاجر بشتى الطرق كشف السارق، فلم يستطع، فلجأ إلى حيلة، فأعطى كلّ واحدٍ من عمّاله حبلاً ذا أطوالٍ متساوية، وطلب منهم أنْ يُبقوا الحبال عندهم لليلةٍ واحدة، وقال لهم إنّ حبل السارق سوف يزداد طوله، فجاؤوا بحبالهم في صباح اليوم التالي؛ فوجد أحدهم قد قصّ جزءًا منه، وكان هو السارق الذي خشي أنْ يطول حبله؛ فكشفه التاجر، وقال كلمته التي ذهبت مثلاً: «حبلُ الكذب قصيرٌ». وقد يكون الأمر كذلك، لكنّه يحتمل تفسيراً آخرَ؛ لأنّ الكذب سرعان ما يتمّ اكتشافه، وينفضح الكاذب أمام النّاس، مهما حاول تزيين كذبته، خاصّة أنّ الكذبة تتطلّب كذبة أخرى، وربما أكاذيب؛ لتستر كلّ واحدة على التي سبقتها؛ فيصلُ الأمر بالكاذب إلى العجز حينما يرى عُقد حبل أكاذيبه غير مكتملة؛ فتنحلّ عقده الواحدة تلو الأخرى، وحينها يتوقّف الكاذب عن صناعة حبل كذبه، وتنفرط العُقد، ولا يستطيع المدّ به أكثر!!
وقد يقول الكاذب بأنّه اضطرّ إلى الكذب بسبب ظروفٍ خاصّة أجبرته عليه، وقد يلجأ إلى تلوين كذبته، ويقول عنها إنّها كذبة بيضاء، لا ضرر منها. وهذا تبريرٌ بائس وخبيث؛ لأنّه لا توجد كذبة بيضاء وأخرى سوداء، ولا يمكن إزالة مخاطر الكذب بتلوينه وتحويره وتعديله، ولا يمكن التسلّح بحجج الضرورة والحاجة!!.. والكاذب حتى لو نجح بتجاوز كذبته والمضي بها بعيداً فسوف يجد نفسه يوماً ما أمام طريق مسدود، وسوف يحاول بشتى الطرق تجاوز هذا العائق الجديد، فلا يجد من سبيلٍ للتغلّب عليه؛ فيعيش من جديد حبيساً لكذبته التي أوردته هذا المصير؛ فتتحطّم نفسه وتنهار أمام هذا العائق؛ فيعيش طوال عمره في بؤسٍ وشقاء.
وقد أُجريت دراساتٍ كثيرة لكشف المُتحايلين والكاذبين، وهذا ما تفعله دوائر الأمن وأجهزة الاستخبارات للكشف عن المجرمين وغيرهم. وتقوم معاهد متخصّصة بدراسة هذه الظاهرة. وقد لوحظ أنّ عيون الكاذب تفضحه؛ إذ تتّسع حدقتاه، ويتوقّف عن الرمش، وهما لا تتوقّفان عن الرمش إلّا عند وجود أزمة داخلية. كما أنّه يطيل النظر في الوجوه، وتزداد نبرات صوته، فيتكلّم بطريقة انفعاليّة وعدوانيّة، ويضطر إلى تكرار الكلمات والضغط على مخارج الحروف، ويميل إلى زمّ شفتيه باستمرار، كأنّه يخشى أنْ تتفلّت منه كلماتٍ تفضحه. ولوحظ - أيضاً - أنّ الكاذب يلجأ إلى اللعب بالشّعرِ وبالأظافر، ويطلب ترديد السؤال قبل الإجابة؛ حتى يجد فسحة من الوقت للردّ. والمثير في الأمر أنّ الكاذب يُبرّر إجاباته حتى وإنْ لم يُطلب منه ذلك!!
أمّا الرُّخصة في الكذب فهي في ثلاث حالات خاصّة، كما ورد عن رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قوله: «لاَ يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ». وفي الحديث إشارة إلى أنّ الكذبَ مرخصٌّ بين الزوجين إنْ كانت الغاية زيادة الألفة بينهما؛ فقد يضطر أحدهما إلى الكذب خشية أنْ يؤدي قول الحقيقة إلى اضطراب العلاقة بينهما!!.. وقد يلجأ الزوج أو تضطر الزوجة للكذب؛ فيقول أحدهما بأنّه يحبّ الآخر حتى تتآلف القلوب، وتستمر العلاقة فيما بينهما، بينما قد يكون الأمر غير ذلك!! وقد ينقل الزوج أو تنقل الزوجة كلاماً مكذوباً عن أهليهما، بأنّهم يحملون لهما المحبّة والمودة، بينما هم - في حقيقة الأمر - يحملون لأحدٍ منهما البغضاء؛ بقصد إيجاد ألفة ومحبة بينهم!!