تباينت وجهات نظر الشعراء عن أسباب شيبهم المبكر؛ إنْ صِدْقًا أو ادعاء. وقد حاول بعضهم أن يجعل من حوادث الدهر سببًا للشيب المبكر، مثل تميم بن خزيمة الذي يقول:
قالت: تغيرتَ قلتُ: الدهر غيرني
والهم شيّبني ما شِبت من كبرِ
ورد عبدالله بن جنح النكري على الغانيات حين زعمن أن مشيبه لتقدم عمره بأنه بسبب الحروب التي خاضها للدفاع عن القبيلة، وعنهن:
زعم الغواني أنْ أردْنَ صَريمتي
أن قد كَبِرْتُ وأدبرتْ حاجاتي
ما شِبْتُ من كِبَرٍ ولكني امرؤٌ
أغشى الحروبَ وما تَشيبُ لِدَاتي
أحمي أُناسي أن يُباحَ حَرِيمهمْ
وهمُ كذاك إذا عُنِيتُ حُماتِي
ويجعل الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني - الذي توفي ولم يبلغ السابعة والثلاثين - من الشيب الذي باكره دليلاً على فروسيته وطول قتاله، وملاقاته الأهوال من سجن وأسر:
وما زادت على العشرين سِنِّي
فما عذر المشيب إلى عذاري
وما استمتعت من داعي التصابي
إلى أن جاءني داعي الوقار
أيا شيبي ظلمتَ ويا شبابي
لقد جاورتُ منك بشَرِّ جار
حتى لقد أصبحت الندوب في خده مجالاً لحديث الفتيات المولهات:
ما أنسى قولتهن يوم لقينني:
أزرى السنان بوجه هذا البائسِ
قالت لهن، وأنكرت ما قلنه:
أجميعكن على هواه منافسي؟
إني ليعجبني إذا عاينته
أثر السنان بصحن خد الفارس
وقد وخط الشيب الشريف الرضي مبكرًا فتخوف من أن يدل الموت عليه، وود لو افتدى سواد الشعر بسواد عينه أو سويداء قلبه، فيقول:
وأرى المنايا إن رأت بك شيبة
جعلتك مرمى نبلها المتواتر
تعشو إلى ضوء المشيب فتهتدي
وتضل في ليل الشباب الغابر
لو يفتدى ذاك السواد فديته
بسواد عيني بل سواد ضمائري
أبياض رأس واسوداد مطالب؟
صبرا على حكم الزمان الجائر
ويختصر الشريف الرضي ما به من شيب في أنه غبار معركته مع الدهر:
وما شبت من طول السنين وإنما
غبار حروب الدهر غطى سواديا
ويلحق الشيب الشاعر الأندلسي ابن زيدون وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره، بسبب ما عاناه في غياهب السجن وهو في ربيع عمره، فيقول:
من يسأل الناس عن حالي فشاهدها
محض العيان الذي يغني عن الخبرِ
لم تطوِ برد شبابي كبرة وأرى
برق المشيب اعتلى في عارض الشعرِ
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب
قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
وحلَّت الشيخوخة المبكرة بالشاعر حسين سرحان بسبب ما لاقى من معاناة نفسية منذ شبابه، فقال:
ثلاثون عامًا يالطول بقائيا
ويالمقامي فارغ النفس ثاويا
تعاظمتها لا أستزيد بها الهوى
وأهدرتها أيامها واللياليا
وأوسعتها جدا ولهوا وحكمة
وجهلا وتذكارا لها وتناسيا
فإن أك حيّا في حساب زمانها
فقد كنت في معنى الحقيقة فانيا
ومن هؤلاء الذين عانوا في شبابهم؛ بل قبل ذلك محمد عبدالقادر فقيه، فقد أصيب بالصمم وهو لم بتجاوز الرابعة عشرة من عمره وقد سبب له هذا صعوبة في التواصل مع مجتمعه، فصار يشعر بالغربة وهو بينهم. وضاعف المعاناة أن باتت الشعرات البيض تلسعه كالنصال وهو لم يبلغ الثلاثين. يقول:
بعد الثلاثين التي
مرَّتْ على مُرٍّ وحالِ
الدهر أوهن خافقي
والعقل ألبسني عقالي
والشعرة البيضاء تلسع
في سوادي النصال
وجنون أيامي تولي
بالبقية من خبالي
وعاش الجواهري حياة مليئة بالكفاح والغربة فذوى شبابه مبكرًا. ففي قصيدة نظمها في سن مبكرة عام 1931 يذكر عيشته النكدة. إنه يشبه الحياة بحسناء فاركة؛ كلٌّ يقاتل الآخر من أجل الاستئثار بها:
ذوى شبابيَ لم ينعم بسراء
كما ذوى الغصن ممنوعا عن الماء
سَدَّتْ علي مجاري العيش صافية
کفُّ الليالي وأجرتها بأقذاء
فمن عناء بليات نهكت بها
إلى عناء، ومن داء.. إلى داء
ست وعشرون ما كانت خلاصتها
وهي الشباب طريٌّا غير غمَّاء
وما الحياة سوى حسناء فاركة
مخطوبة من أحباء وأعداء
وفي قصيدة الدكتور غازي القصيبي (أمام الأربعين) يذكر طرفًا من أسباب شيبه، وهو العمل والجد والنجاح الذي يحسده الناس عليه، وما علموا أن النجاح يعني عذاب روح وسهاد عين:
(نجحتَ) يقول بعض القوم عني
وعدتَ تخب بالفوز المبين
وأعطتك الحياة فمن شمال
سقتك رحيقها.. ومن اليمين
وأعجب ما النجاح عذاب روحي
وعربدة السهاد على جفوني
ومن الشعراء من حمَّلوا محبوباتهم مسؤولية شيبهم المبكر، وما هو إلا محض تظرف. ومن هؤلاء البحتري الذي لا تكتفي محبوبته بأنها تسببت في إلحاق الشيب به؛ بل تعيره بشيبه، فيقول لها:
عيرتني بالشيب وهي بدته
في عِذاري بالصد والاجتناب
ويقول (كشاجم) إن صدود حبيبه وعتابه كانا سببًا في انصراف الشباب عنه مبكرًا:
لا تنكرَن الشيب أنتَ جنيته
بقطيعة وخيانة وعتاب
لو لم ترعني بالصدود وتارة
بالبين طال تمتعي بشبابي
والمحبوبة هي التي جلبت الشيب للبهاء زهير، لكن ليس بسبب سوء معاملة؛ بل بسبب ثغرها الذي لامس شعره فألهبه. يقول:
وليس مشيبا ما ترون بعارضي
فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا
فما هو إلا نور ثغر لثمته
تعلق في أطراف شعرى فألهبا
وهيفاء بيضاء الترائب أبصرت
مشيبى فأبدت لوعة وتعجبا
جنت لي هذا الشيب ثم تجنبت
فوا حربا ممن جنى وتجنبا
** **
- سعد عبدالله الغريبي