2- رواية النضج الفني:
بدأت هذه المرحلة على يد أبناء الجيل الثاني من أجيال الرواية العربية، إذ بدأت تتخلى الرواية عن المباشرة في تحقيق الهدف التعليمي، والمبالغة في تحقيق جانب الترفيه والتسلية، القائمة على المبالغة في افتعال التشويق، ومن رواد هذا الاتجاه: نجيب محفوظ وباكثير ونجيب الكيلاني وغيرهم.
وفي هذا الاتجاه ظهرت مجموعة من السمات، منها: بروز الجانب التخييلي، ودفع الشخصيات إلى الحديث عن نفسها؛ لسبر أغوارها، والأهم حضور وجهة نظر الروائي للعالم، من خلال إعادة قراءة أحداث التاريخ وتفسيرها، وإقامة جسور التواصل مع وجهات النظر المختلفة، ومن هنا بدت الرواية التاريخية نصاً موازيا للنص التاريخي. ويمكن القول: إن هذا الاتجاه سعى إلى توظيف التاريخ توظيفاً فنياً.
3- محاولات التجريب:
يربط النقاد نشأة الرواية التجريبية العربية بنكسة (1967م)، فنتيجة لما حدث وتبعاته ظهر التمرد على الأشكال الأدبية الراسخة، والبحث عن أشكال جديدة، فظهرت محاولات التجريب والتجديد في الرواية العربية، واتخذت الرواية العربية التاريخية صوراً عدة للتجريب، منها: اعتماد أشكال سردية قديمة، واستدعاء الشخصيات، والانتقال إلى فضاء تاريخي بشخصيات مغمورة، والرواية التي يتداخل فيها المرجعي بالعجائبي، وبالأسطوري، وغير ذلك من المحاولات التجريبية:
أ- اعتماد أشكال سردية قديمة:
وفي هذا الاتجاه يعمد الروائي إلى اعتماد أشكال سردية تراثية في إنجاز نص روائي حديث، والاستعارة تكون كلية أو جزئية. ويمكن القول: إن هذا الاتجاه سعى إلى تأصيل شكل روائي عربي، من خلال اعتماد الشكل التراثي في السرد أو القوالب التراثية.
ومن رواد هذا الاتجاه جمال الغيطاني في رواية (الزيني بركات) (1971م) على سبيل المثال، ومن خصائص هذا الاتجاه عامة ورواية (الزيني بركات) خاصة كما ذكر النقاد: استلهام الشكل التراثي، واستلهام النص والشخصية والحدث التراثي، وتحطيم التسلسل التاريخي للأحداث.
ولم يكتف الغيطاني باستحضار الأحدث والشخصيات، بل استعان بالشكل التراثي واللغة التراثية؛ لاستحضار العصر وتمثله، فجاءت الرواية قارئة للتاريخ لتفسير الحاضر. واستلهم الغيطاني الخطب والرسائل والتقارير التاريخية والفتاوى، ووظفها توظيفا فنياً في الرواية. واتبع ابن إياس في كتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور) في بعض العناصر.
وإذا كنت قد أدرجت هذا العمل في محاولات التجريب في تلك المرحلة، فإننا اليوم يمكن أن نضع هذا الاتجاه ضمن الاتجاه الحديث وليس التجريبي؛ لأنه تشكل وأصبح اتجاهاً محدداً، والتجريب يبحث دائما عن شكل جديد، وعندما يستقر الشكل يصبح حديثاً، وليس تجريبيا. وهذا الاتجاه له حضوره في الرواية العربية.
ب- استدعاء الشخصيات:
تمثل رواية استدعاء الشخصيات التاريخية اتجاها في كتابة الرواية التاريخية، ويمكن إدراجه في مرحلة نشأته ضمن محاولات التجريب للرواية التاريخية، وفي وقتنا الراهن نجد أن التجريب تجاوز هذا الاتجاه كما تجاوز محاولات التجريب الأخرى، بعد استقرار اتجاه الاستدعاء، ووضوح معالمه نسبياً.
ويتخذ هذا الاتجاه من التاريخ وسيلة لمعالجة الواقع المعاصر، ويقل الالتزام الصارم بالمرجعية التاريخية، ويحضر المرجع التخييلي بوضوح.
وفي هذا الاتجاه يعمد الروائي إلى بعث شخصية تاريخية في الواقع، أو قد يكتفي بخيط من خيوطها، وينسج حولها بناء روائياً ينتمي إلى الواقع، فيختلط الواقع الحاضر بالماضي؛ متحاوراً معه، وربما محاكماً له.
ومن التجارب في هذا المجال رواية (عمر يظهر في القدس) لنجيب الكيلاني (1970م)، و(رحلة ابن فطوطة) لنجيب محفوظ (1983)، و(من أوراق أبي الطيب) (1989م)، لمحمد جبريل الذي استعان بمخطوط خيالي في سرد الأحداث.
وفي هذا النوع من الأعمال يقوم الروائي بمغامرة كبرى خاصة مع الشخصيات المشهورة، خاصة ذات القداسة، مثل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
ج- الانتقال إلى فضاء تاريخي بشخصيات مغمورة:
في هذا الاتجاه يتخذ الروائي من التاريخ المجهول أو المحدد على استحياء فضاء تتحرك فيه شخصيات مغمورة تخييلية، فالفضاء تاريخي مجهول، أو مقدم من خلال استحضار شخصيات تاريخية واقعية هامشية في العمل، أو أحداث مشهورة؛ لمجرد الإيهام بواقعية الأحداث، وتحديد الزمن، وقد يظل التاريخ غير محدد، فالفضاء تاريخي مجهول، والشخصيات تخييلية. وهذا يتيح للروائي حرية تقديم وجهة نظره للعالم، وتقديم وجهة نظر خاصة للتاريخ.
ويمكن التمثيل برواية (غواصو الأحقاف) لأمل الفاران. وفيها أشارت إلى التاريخ من خلال استحضار الصراع على السلطة قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يد المؤسس الملك عبد العزيز (رحمه الله).
د-تداخل المرجعي بالعجائبي، وبالأسطوري:
وهذا النوع من الروايات يعد من أحدث الروايات التي يمكن أن تندرج ضمن اتجاهات كتابة الرواية التاريخية، وفيها يتداخل المرجعي بالعجائبي (الفانتازي)، والمرجعي بالأسطوري، ومن نماذجه رواية الجنية لغازي القصيبي. وفي هذا نقاش.
وهذا الاتجاه إن صح إدراجه ضمن الرواية التاريخية في بعض نماذجه بحاجة إلى دراسات تحدد معالمه، ومنطلقاته.
وبعد، فما ذكرته يندرج ضمن محاولة تعميق الأسئلة حول هذا الموضوع، وإبراز قضاياه الفنية والمضمونية، وليس الهدف تقديم إجابات عن أسئلة شائعة، بل تقديم أسئلة جديدة.
.... ... ... ...
- المراجع:
1-توظيف التراث في الرواية العربية، محمد رياض وتار.
2-الرواية التاريخية في الأدب السوري المعاصر، د. عبد الرحمن برمو.
3-الرواية التاريخية في أدبنا الحديث، حلمي القاعود.
4-الرواية التاريخية في الأدب العربي السعودي الحديث، د. علي الحمود.
5-روايات جرجي زيدان: دراسة تاريخية، د عبد الجواد المحص.
6-الرواية وتأويل التاريخ، د. فيصل دراج.
7-الرواية والتاريخ، د. محمد القاضي.
8-الرواية والتراث السردي، د. سعيد يقطين.
9-السرد والتاريخ والتخييل، د. نور بنخوذ.
10-العناصر التراثية في الرواية العربية مصر، د. مراد مبروك.
11-الفن القصصي بين جيلي طه حسين ونجيب محفوظ، د. يوسف نوفل.
** **
أ. د. علي بن محمد الحمود - الأستاذ في كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com