لم يكن كباقي الأطفال شغوفًا باللعب وعراكهم الذي لا ينتهي، تركزت نباهته بفضول كبير لمعرفة كل ما يجري حوله، هو أقرب ما يكون لملازمة جدته الضريرة، يخدمها ويقودها في معظم تحركاتها بين بيوت أبنائها وبناتها وإخوتها وأخواتها في قريتهم المجاورة لسكة القطار.
تلك الآلة الضخمة التي تجرّ الكثير من العربات لا محطة لها في هذه القرية رغم مرورها المتكرر كل أسبوع، بضجيجها وصفارتها المدوية عندما توازي بيوت قاطني تلك القرية.
اعتاد الرجال وبعض النساء على رفع أيديهم بالتحية كلما سمعوا تلك الصافرة مع الجهر بالقول وعليكم السلام يا أهل «البابور» ورحمة الله, ومصحوبين بالسلامة.
هكذا ترسخت تلك العادة لديهم، حتى أنهم ظنوا أن منبه السيارات ما هو إلا أداة للتحية والسلام.
لم يحلم الأطفال ولا الكبار بفرصة نادرة بل هي الوحيدة حيث تعطل القطار بالقرب من قريتهم، فتوقف بُعيدها بمسافة تجاوزت الخمسة كيلومترات قليلاً.
لم يكن المشهد اعتياديًا لسكان القرية رجالاً ونساء وبالطبع لأطفالهم الذين سبقوا الجميع للإحاطة بالقطار وعرباته، تاركين مسافة آمنة تناقصت مع مرور الوقت وتلويحات ركاب القطار لهؤلاء الأطفال وآبائهم حتى تلامست الأيدي بالسلام وتقاربت الوجوه بالأحاديث والاستفسارات الكثيرة.
تقدم مؤذن القرية «أبو فيّاض خلف الحمود» للقاطرة, وتحدث مع أحد العاملين المنشغلين بتفحص محركات القطار وتوصيلاتها عارضًا عليه المساعدة، والأهالي مع أطفالهم يراقبون المشهد الكبير بين مؤذن مسجدهم وهذا الرجل الضخم «أبو شوشة» وما الذي سيؤول إليه هذا الحوار.
شكراً يا سيد على طيبتك ونبلك .. الموضوع أكبر .. هكذا ردّ أبو شوشة.
موجود عندي بالبيت ليس بعيدًا.. يقول خلف ويؤكد.. والرجل يستمع وينظر إليه دونما فهم دقيق لهذا الموجود.. وسيلة المساعدة الموعودة.
جمهور القرية صامت متيقظًا مستشعرًا بكل الحواس لمحاولة استيعاب هذه اللغة التي تبدو أنها لغتهم، لكنها غدت حقيقة كالطلاسم غموضًا وتعقيداً.
يفسّر فهيد لجماعته ما يجري .. ما شاء الله .. معه قلم أبو فيّاض «يدبّر الكُفت» لا تحسبونه هيّن أخو حمده.. يعزّز الرجل لقريبه خلف أخو حمده ومبهوراً بقدراته التي اكتشف أنها تجاوزت القدرة على إمامة المصلّين عندما يغيب المطوع.
يا هزاع.. تعال يا ولدي.. رح للبيت وهات لنا «أبو جلمبو» تلقاه معلّق بدار الوهد فوق الخابية.. يالله بسرعة يا ولدي لا يتعطلون الجماعة عن شغلهم ..
هكذا يطلب خلف بن حمود، ويلتفت لأبي شوشة.. هذا أحضرته من الشام قبل ثماني سنين .. ولا هو رخيص والله .. لكن الله وكيلك جديد حافظه لمثل هالحزّة .. أي بالله هذا وقته.
الرجل - أبو شوشة - لم يستوعب هذا العرض والخدمة محاولاً إقناع هذا المتفضل وأصحابه بأن فريق الصيانة بالطريق إليهم.
ويعيد أبو فياض ويزيد: سهلة إن شاء الله سهلة أموركم .. أقول لك والله جديد بشحمته.
أنا أشهد إنك اللي تستاهل الختم يابو فياض .. هكذا يصيح فهيد .. فقد جاءت فرصة مكايدة العمدة دغيّم والطعن بأحقيته بالختم.
تلكأ هزاع بالذهاب لإحضار القطعة التي طلبها عمّه خلف، فقط اكتفى بالابتعاد قليلاً عن عمّه وأبي شوشة.
هيّا يا هزاع اذهب، أنا ظنيت أنك هالحين وصلت وأنت إلى هالحين ما رحت!
لن أذهب .. يردّ هزاع!
ماذا؟ لماذا يا ولد؟ ترى ما يروحون إلا بعدما تجي.. هيّا الله يصلحك.
لن أذهب.. خلّه يخرب أحسن.
هزاع.. وش اللي تقول؟ ليش يا هزّاع؟ يسأله فهيد..
اقترب منه أبو شوشة بلطف..؟ لماذا يا ابني لا تريد مساعدتنا؟ هل تحب أن يتعطل القطار ولا نكمل رحلتنا؟ هل أنت زعلان علينا؟ وإلا تبغانا نجلس عندكم؟
أصبحت العيون مركزة على هزاع أكثر مما هي على القطار، فالجميع يتساءل، ما الذي يقول هذا الطفل ويفكر به؟
نعم يردّ هزاع بكل ثقة.. هذا جزاكم.. اليوم ما سلّمتوا علينا؟ يواصل.. جدتي لطيفة ظلّت رافعة يدها من يوم سمعت صوت البابور وتحتريكم تسلمون .. وتعديتونا ما سلمتم علينا، هذا جزاكم .. تستاهلون.
لم يفهم أبو شوشة هذا الكلام ولا عرف له ردّاً.. فتبلّم مكتفياً بالنظر لهؤلاء الرجال مرّة وأخرى لهذا الطفل.
فجأة تبادل الرجال النظرات مع خلف بن حمود ودون نقاش انسحب الجميع عائدين لبيوتهم، تركوا القطار وركابه. أصبح أبوشوشة أمام قاطرته وحيدًا في ذهول.. وبلا مفتاح أبو جلمبو!!
** **
- عقل مناور الضميري