د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في زمنٍ نأى كانت لدينا مراكزُ صيفيةٌ تشرف عليها وزارة المعارف – وفق تسميتها القديمة – تعقد في معظم مدن الوطن، وتمتد خمسين يومًا خلال إجازة الصيف، ومن أهدافها تبادل الخبرات وتنمية العلاقات بين المراكز، وتُختتم برحلة سنوية، ولتجاور المدينتين فقد كنا في مركز عنيزة نزور أشقاءنا في مركز بريدة مثلما يزوروننا، وللتأريخ فهما أقرب مدينتين من بعضهما في التصاهر والأواصر، أما التنافس فمُشرعٌ ومشروعٌ ما ظلَّت أهدافُه تنمويةً نبيلة.
** استضافنا مركز بريدة في سطح إحدى المدارس التي يشغلُها، ولفت نظرَنا شابٌ يقف أمام الجمع الكبير وخلف المايك المَهيب فينطلق في حديثٍ مسترسلٍ مرتجَلٍ دون أن يحمل ورقةً أو يتوقف لتذكر، وحين زارونا في مركزنا واحتفينا بهم وجدنا الشاب نفسه « يتسلطن» أمام المايك، وبقيت صورته خطيبًا متدفقًا يضع طرفي غترته وراء ظهره، وكنا – إذا لبسناها- نجمعها فوق رؤوسنا، ومع إعجابنا به فلم نسعَ للتعرف عليه، واكتفينا أن قيل لنا: إنه (إبراهيم بن أحمد الصقعوب).
** مضت بنا سبل الحياة فانشغلنا، وبعد «عقدين» التقينا في استوديوهات إذاعة الرياض؛ فأبو أحمد أحد ركائزها، وصاحبُكم متعاونٌ معها، وما أجمل القرب حين يؤكد الخَبرُ الخُبرَ؛ ففوق مهارته ومهنيته خُلقُه الكريم وتعاملُه المميزُ وروحه الطيبة ونفسه السمحة، يضاف إليها إخلاصه لتخصصه فلم يُشغل نفسَه بما لا يتفق مع ميوله، واشتهر ببرامجه الحوارية مع كبار السن والمرضى واستنطاق الذواكر وتقديم البرامج الجماهيرية.
** في مفارقات سيرته كما رواها حرصُ والده -رحمه الله- على تجنيب بيتهم دخول «الراديو» فلم يقتنه إلا بعد وفاة والده بأربعة أعوام (1385هـ) وليصبح الابن – بعد سنوات - مسؤولًا عن إذاعات الوطن بمرتبة وكيل وزارة، ولعله أنموذجٌ في قراءة الذات وتحديد الهدف وإخلاص العمل؛ فامتلك «المايك» صغيرًا، ودرس الإعلام شابًا، واحترفه كبيرًا، وتقاعد من أعلى هرمه.
** قد لا يعرف الكثيرون أن الصقعوب أديبٌ متوارٍ نشر أول قصةٍ له في صحيفة الجزيرة قبل أكثر من نصف قرن (عام 1389هـ)، واقترحنا عليه كتابة ذكرياته الثرية في «الثقافية»، وجمَعنا معه – على مدى ثماني سنوات- مجلسُ شيخنا الجليل محمد بن ناصر العبودي، ومع أنه جدُّ أولاده فلم يُرَ يومًا متصدِّرًا، ولم يُعهد متدخلًا أو حتى متداخلًا يزينه تواضعُه وأريحيتُه، وإذ عاش في الأضواء فلم يعشَ بها، واختار الطريق الهانئَة فما بدّل مساره، ولا غادر مداره، وظلَّ الوفيَّ لاختياره.
** لم يقف بعد توقفه؛ فهو يدير مركزًا خاصًا للدراسات والبحوث والتدريب الإعلامي، وتجربته الإدارية في وزارة الإعلام تؤهله ليُحاضر في الإدارة وقيادة الفريق؛ إذ شُهد له بعدم المركزية وحبِّ الخير؛ فلم يحتجْ مرؤوسوه للمطالبة بحقوقهم، بل ناب عنهم، وترقى أكثرهم دون أن يدخلوا مكتبه، ولن « يذهب العرفُ بين اللهِ والناس».
** الخطوةُ الأولى فعلٌ وتفاعل.