د.عبدالله الغذامي
في عام 1983 كنت في جامعة كاليفورنيا فرأيت جريدة الرياض عدد الخميس في مكاتب الأساتذة العرب في قسم الدراسات العربية وتكرر المشهد نفسه حين ذهبت لجامعة جوروج واشنطون، ولعدد الخميس تحديداً وهو العدد المتضمن للملحق الثقافي الأسبوعي، عرفت في الحالين أن سعد الحميدين هو الذي ربط الوصل بينهم وبين الجريدة، وهذا الملحق كان يضم أسماء عربية من أدباء وأديبات بمثل ما يضم أهم الأسماء السعودية من مبدعين ومبدعات ولم يك سعد الحميدين حديث عهد حينها بالعمل الثقافي واستقطاب الأقلام المبدعة سعودياً وعربياً بل إنه بادر لهذه المهام منذ عام 1966 ، وهي سنة انضمامه الرسمي للعمل الثقافي الصحفي بدءًا من جريدة الجزيرة فمجلة اليمامة ثم حطت رحاله في جريدة الرياض واستقر فيها لعقود، ووجد من تركي السديري سنداً معنوياً قوياً يعينه على مواجهة عواصف التحولات الحادة حين ظهرت موجة الصحوة وكانت الحداثة هدفاً مستهدفاً من الصحوة وحملاتها العنيفة ضد كل فكر حداثي، وتقوم الحملة على قوائم بأسماء مبدعين ومبدعات وبمجرد ذكر اسم من هذه الأسماء يجري تحفيز الهجوم وتجييش الجماهير ضد ذلك الاسم المعين.
وكان مجرد النشر في الملحق الثقافي في جريدة الرياض سبباً للهجوم على الجريدة بمثل ما هو سبب لتدشين الاسم بوصفه اسماً حداثياً حسب مقام التدشين وسيكون بالمعنى الإيجابي إن كان على طاولة مكتب في جامعة كاليفورنيا، وسلبياً إن جرى على شريط كاسيت مثل شريط سعيد الغامدي وهو الشريط الذي دشن لحملة التكفير والتشويه المجتمعي وصدقته جماهير الصحوة ظناً منهم أن صاحب الشريط داعية إسلامي ناصح وحارس لدين الله، وهذا ما جعل ملحق الرياض يتعرض لهجوم متصل وتشويه متعمد، ونال تركي السديري بما أنه رئيس التحرير نقداً شرساً خاصة لكون سعيد الحميدين شاعراً حداثياً وهو أيضاً من يستقطب الأسماء الحداثية سعودياً وعالمياً وهذا يضاعف من رغبات الهجوم بمثل ما يعزز منزلة الملحق لكونه الصوت الأقوى في تمثيل الحداثة وعلى مدى عقود توالت بصبر وتحدٍ لا تقوى عليه إلا النفوس الكبار، ومن عاصر تلك المرحلة يعرف درجة الخطر الذي كان يحيط بالأجواء بسبب حالة التهييج التي ظلت تنذر بمخاطر حمى الله الثقافة والمجتمع منها، وكان سعد الحميدين تحت وابل نيران التشويه المخطط والمرتب ولم يعوض عن هذا إلا نجاح الملحق في صناعة أثره وتأثيره على أجيال كانت تصعد حينها وتتفتح على خطاب ثقافي معرفي جريء ومتحدٍ للظلامية والانتهازية في حروب كلامية شرسة ومشوهة.
ولم يك سعد الحميدين طارئاً على الحداثة فهو منذ ظهوره المبكر وهو فتى في الطائف مع ثلة من الشباب المستنير مثل حمد المرزوقي وفهد العرابي الحارثي ممن ظهروا في تزامن لافت وكانت أسماؤهم تتعاقب في الظهور الصحفي منذ الستينات بمقالات كانت تلفت أنظارنا وتدهشنا وإن كنت شخصياً أعرف حمد المرزوقي منذ الطفولة وأعرف نبوغه المبكر ولكن الحميدين والحارثي كانا اسمين جديدين علي وعرفتني عليهما الصحافة.
والحميدين يختلف عن رفيقيه بتصديه لكتابة النص الشعري الحداثي وظل ينشر شعره لسنوات مبثوثا في الصحف ومحافل الإبداع إلى أن اتخذ خطوة لافتة في حينها وهي إصداره لديوانه الأول (رسوم على الحائط) عام 1977 وهنا يدخل في شراكة إبداعية ثلاثية مع فوزية أبو خالد بديوانها (إلى متى يخطفونك ليلة العرس) عام 1975 وأحمد الصالح وديوانه (عندما يسقط العراف) عام 1978 ، وهذه الفترة شهدت مع الشعراء الثلاثة انبثاق زمن الحداثة بصيغته الجادة والمتحدية حيث تحولت الحداثة من قصائد في جرائد إلى دواوين تؤسس لمرحلة جادة ومتحدية، وكانت الصدمة تجاه هذا التحول قوية ومربكة للوسط التقليدي، وكان المرحوم أحمد عقيلان قد تحرك في مواجهة هذه الموجة فكتب عدة مقالات متسلسلة بعنوان (جناية الشعر الحر) ثم حولها لكتاب سلط فيه قلمه ضد القصيدة الحداثية بعد أن استفزه تحولها لتكون رسمية عبر دواوين ولم تكتف بتاريخها الأول على هامش الصحافة وكأنها مجرد محاولات لشباب غر لم ينضج بعد، وهذه هي الصورة التي يبثها التقليديون عن شعراء الشعر الحر كما كانوا يسمونه حينها ومع موجة الدواوين أصبح شعراً حداثياً بمصطلح أكثر تحدياً واستفزازاً لهم، وقد كان ظهور الدواوين الثلاثة قراراً جريئاً حينها لأنه إعلان تدشيني لزمن الحداثة والإبداع المختلف، حتى نحن من نقف مع الحداثة الشعرية كنا فقط نتمنى على الشعراء أن يجمعوا أشعارهم في دواوين، وكانت الفكرة صعبة التنفيذ حينها وكأنها ستحدث قنبلة ثقافية بما أنها اعتراف بالهامش وتحول للمهمش ليصبح محاوراً ومتحدياً للمتن العمودي المستقر والمحتكر للمنابر وللنشر وللاستقبال الجاد دون شعر الشباب الذي هو عند التقليديين مجرد شعر حر مكانه وصلة صغيرة في صفحة داخلية وسط الجريدة ويقف عند هذا الحد، ولكن ظهور الدواوين الثلاثة في تعاقب سريع جعل الأمر جدياً ومتحدياً وهذا ما ظل يستفز التقليديين إلى أن أصدر عقيلان كتابه بعد سنوات من التذمر من عبث صبيان الشعر الحر وكان كتابه الذي صدر في الثمانينات بياناً رسمياً مؤسساتياً عن ردة الفعل التي توجها هذا الكتاب أخيراً، نتيجة لتحول الحداثة وتمكنها من واجهة الصدارة.
على أن حركة الدواوين الثلاثة تشبه تاريخياً حركة العواد عام 1926 بفارق خمسين سنة وذلك حين أصدر كتابه (خواطر مصرحة)، وهو أول كتاب سعودي في ثقافة التنوير والتغيير ولاقى حينها عنتاً من الوسط الثقافي المحافظ وصمد العواد حتى انتصرت أفكاره بعد عقود من ظهورها في الكتاب ذاك. على أن الشبه بين الحميدين والعواد كبير جداً، فالحميدين أولاً شديد الإعجاب بالعواد ويختزن في ذهنه قصص العواد كلها، ومعها قصص الجيل الأول من طلائع الثقافة السعودية، وهو مرجع مهم في تلك القصص والحكايات غير المنشورة والتي لما تزل في فضاء الرواية الشفاهية، وهذه واحدة من مزايا سعد الحميدين التي تجعله واحداً من أعمدة الثقافة السعودية إنتاجاً ووعياً بتاريخ المراحل بمثل ما هو أحد صناع الثقافة بما أنه ظل يقود ثقافة ملحق الرياض لعقود متصلة واستقطب كل قلم مبدع في المملكة وفي العالم العربي وناضل من أجل هذا الاستقطاب وتحدى الصعاب وواجه الهجوم والحملات المنتظمة ضده، وضد الجريدة التي تحتويه، وانتصرت المعرفة مع الحميدين كما انتصرت لسلفه الأثير العواد، وما أقوى الشبه بينهما وكلاهما مثل ركناً من أركان الهرم الثقافي الحداثي، كل بطريقته وحسب شروط زمنه ومرحلته.