د.فوزية أبو خالد
على الرغم من أن الشاعر سعد الحميدين شريكي الشعري في جرأة كتابة التاريخ الأول لبدايات الشعر الحديث على الساحة الثقافية بالمجتمع السعودي بإصداره أول ديوان في شعر التفعيلة (رسوم على الحائط) عام 1977م، وبإصداري أول ديوان في شعر قصيدة النثر (إلى متى يختطفونكِ ليلة العرس) عام 1975م، بما يشبه تزامن وتزامل الشاعرة نازك الملائكة والشاعر بدر شاكر السياب في العراق، بفوارقه الموضوعية والذاتية والزمنية، إلا أنني لم يجمعنا أي عمل ثقافي ميداني. غير أنه من حسن حظ المجال الثقافي أنه لا يحتاج لتعارف شخصي ولا لحوار مباشر لتوليد الإحساس بمعرفة الآخر أو لتحقق معرفة فعلية، وذلك من خلال قراءة الأعمال لبعضنا البعض، إضافة إلى العيش في نفس شروط المرحلة اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا. وربما هذا ما قصده د. غازي القصيبي حين تحدث - رحمه الله - عن التواشج الثقافي بين منتجيها في التآلف والاختلاف معًا.
لذا قد يكون في الحديث عن تجربة الشاعر سعد الحميدين بحد ذاتها وفي تعالق تجربتينا كبداية أولى لتيار الشعر الحديث فرصة لتأمل الذات الشاعرة، وتجربة الشعر الحديث بالمملكة بعد مثابرة المشي لعقود على طريق لم تكن معبدة إلا بالأمل، ولم تكن آهلة إلا بقليل من الحالمين والمحاربين والغاوين.. ولئلا أكتفي بالكتابة عن التجربة الرائدة للشاعر سعد الحميدين عبر قراءتي وحدها قمتُ باستدراج الشاعر سعد الحميدين نفسه؛ ليشاركني الكتابة؛ فأرسلتُ له ثلاثة أسئلة محددة. السؤال الأول منها كان عن دوافع كتابة قصيدة التفعيلة، ونشر ديوان فيها، هو الأول من نوعه بالمملكة وقتها. السؤال الثاني أستفسر عن الموقف الثقافي العام من ذلك الإصدار بذكر بعض الأسماء ومواقفها من تلك المغامرة الشعرية. أما السؤال الثالث فقد سألتُ سعدًا عن جراح وشجن التجربة ومكتسباتها بعد مرور عقود عدة على إصداره الأول الذي أتبعه بأحد عشر كوكبًا من الدواوين التي أكد فيها تمسكه بشعلة الشعر واختياره كتابة قصيدة التفعيلة، وإن أدخل عليها في بعض أعماله الأخيرة لمسة من قصيدة النثر.
لقد جاءت إجابات الشاعر مفاجأة لي في صدقها وبساطتها كعشب نأى بخضاره عن البرد والحرور. وهنا أشرككم فيها بشهدها كما وصلتني عبر الإيميل. في إجابة سؤال دوافع الاتجاه لكتابة قصيدة التفعيلة، ولنشر ديوان أول بالمملكة، كتب الشاعر سعد الحميدين: «بعد قراءات كثيرة معمقة في الشعر العربي من الجاهلي إلى المهجري، انتقلت لقراءة الشعر في اللحظة المعاصرة من مجلة (شعر) إلى دراسات في تاريخ الأدب العربي والدراسات التي كتبت عن الشعر الحر، خاصة كتاب نازك الملائكة (قضايا الشعر المعاصر)، وكتاب د. محمد النويهي (قضية الشعر الجديد)، ثم كتاب جليل كمال الدين (الشعر العربي الحديث وروح العصر). وهذا الكتاب الأخير كان له تأثيره المباشر علي لكي أكتب الشعر الحر؛ لأنه تضمن دراسات عن شعراء عرب كعبد الوهاب البياتي، بدر السياب، نزار قباني، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة، تضمنت نماذج من أشعارهم. إضافة لذلك تحصلت على أعداد من مجلة الآداب ومجلة الأديب، وكانت تنشر القصائد والدراسات عن الشعر الحر، وكانت مجلة الآداب تتناول طروحات نقدية مدروسة لعدد من الشعراء والنقاد، منهم الشاعر صلاح عبد الصبور، والناقد رجاء النقاش، وغيرهم ممن أولوا اهتمامًا لقصائد الشعر الحر بما أوقفني على أسرار الشعر الحديث، وأوقعني في جماليته. وكنت قبل أن أغذ السير في قراءة تجربة الشعر الحديث عربيًّا قد شرعتُ في كتابة الشعر العمودي، ونشرت بعض قصائد عروضية تقليدية إلا أنني ما لبثتُ أن عدلت عن المضي في طريق الموروث الشعري القديم، وقررتُ السير على الطريق الجديد. فكتبت قصيدة (أوراق من دفتر عسة)، نُشرت في جريدة اليمامة 1966 مصحوبة برسم للفنان محمد الخنيفر. والمدهش أنها وجدت استحسانًا لدى بعض المهتمين بالشعر الحديث؛ وهو ما شجّع على الاستمرار؛ فكان ديوان (رسوم على الحائط) الذي صدر عام 77م، وكنت وقتها في الثامنة والعشرين من العمر.
وبعد نشر (أوراق من دفتر عسة) وصلتني من عبدالله الشهيل رسالة تشجيع، يطلب فيها مني المواصلة في كتابة هذا النوع من الشعر. أعقبها موقف ترحيبي من الناقد عبدالله نور؛ فكان ذلك دافعًا للاستمرار في الكتابة والنشر؛ فنشرتُ في مجلة اليمامة، وفي صحف الرياض وعكاظ والبلاد. ولم أكتفِ من كلفي بالشعر الحديث بالنشر في الصحف بل أغرتني الرغبة لنشر ديوان شعر من قصائد التفعيلة؛ فجمعت ما نُشر لي من الشعر الحر، واستبعدت القصائد التقليدية، وأضفتُ قصائد جديدة، متأثرًا بما كان لشعراء الشعر الحر من وهج في الساحة الثقافية العربية، وعرضتُ فكرة نشر ديوان أول في الشعر الحديث على محمد الشدي رئيس تحرير اليمامة حينها، وكان يملك دار نشر (الوطن). تردد قليلاً، وما لبث لحماسي أن اقتنع بالفكرة، وقامت دار الوطن بإصدار ديواني الأول في الشعر المعاصر، وكانت المفاجأة أن استقبال العمل جاء بما فاق التوقع، فتحمس له الكثيرون ممن لهم مكانة شعرية ونقدية، منهم الدكتور غازي القصيبي، ومحمد حسن عواد، وعزيز ضياء الذي كتب مقالة مطولة مُهليًا بالعمل.
ولا أنسى عبدالله نور الذي جاءني فرحًا بالإصدار، ويحمل نسخة من الديوان، وقد همش عليه تعليقات إيجابية، إضافة لبعض الاستدراكات لبعض الأخطاء المطبعية. هذا بالإضافة لمواقف تشجيعية من الأديب عبدالله بن إدريس، والشاعر أحمد قنديل، وعبدالله الجفري الذي كان ينشر لي بجريدة عكاظ, وغيرها من المطلات الصحفية هناك بطبيعة الحال من كان له رأي سلبي، وكتب إما مستاء من فكرة كتابة الشعر الحر أو منتقدًا، ومنهم راضي صدوق وعلي العمير - على ما أذكر - إلا أن ذلك لم يوهن من عزمي، وواصلت المسار الجديد الذي اتخذته لنفسي على غرار الشعراء بالعالم العربي.
بالنسبة لسؤال جراح التجربة وشجنها فيمكن أن أختصرها في نقاط محددة:
1- تَشَدُّقُ من لا يعرف عن الشعر إلا اسمه ويجهل معناه بادعائه أنه ناقد، وهذا ما تعج به الساحة الثقافية العربية، وما زالت.
2- الشللية التي ترى أنها دائمًا على الصواب بتبادل التطبيل بعضهم لبعض في نسخ مكررة.
3 - مع تعرُّضي للنهش فإنني لم أعبأ بالمثبطات، بل زادت ثقتي بما قدمت وأقدم من أعمال لإدراكي أن العمل المطلوب هو ثمرة الجهد الجاد، ولمست ذلك في تقدير الساحة الثقافية المحلية والعربية».
وإذا كان لا عطر بعد عروس، ولا ظمأ بعد مطر، فقد لخصتْ إجابات الشاعر سعد الحميدان ملامح البداية في السبعينات الميلادية لتلك التجربة الشعرية المغايرة للسائد الشعري التقليدي بالمملكة الطامحة حينها لمضاهاة حركة الثقافة المعاصرة بزخمها التجديد في العالم العربي والعالم.
وأختم هذا المقال الذي اضطررت لاختصاره من 2600 كلمة إلى ألف كلمة بالقول إن من أبرز ما تتسم به تجربة الشاعر الحميدين هو الحلمية والمثابرة. ويتضح ذلك من حيث الحلمية منذ قصيدة الرسم على الحائط بمطلعها أعلاه إلى شعره اليوم. أما مثابرته الشعرية فتتضح في إصداره للجزء الأول من أعماله الكاملة عام 2012م مسجلاً بذلك أنه الشاعر الأول من جيله الذي أقدم على إصدار مجموعة دواوينه في كتاب واحد مثلما كان ديوانه الإصدار الأول في قصيدة التفعيلة.
وتتجلى حلميته ومثابرته معًا في إصداراته المتلاحقة قبل مجموعته الكاملة وبعدها بعناوينها الموحية، مثل خيمة أنت، والخيوط أنا، غيوم يابسة، وليس أخيرًا عزف على الحروف 2019م. ومما يميز هذه التجربة أيضًا أنها ترتكز على تواجد ثقافي لم يتخلف عن الحضور حتى في أحلك الأوقات فقد حضر سعد الحميدين كمثقف وكمشرف على الملحق الثقافي لجريدة الرياض أكثر من عقد في تفاعل مع أسماء ثقافية وأكاديمية بارزة محليًّا وخليجيًّا وعربيًّا. ويبقى أن من اللافت في هذه التجربة أنه على الرغم من أن الشاعر سعد الحميدين كان من أوائل من ابتدأ تيار الشعر الحديث بالمملكة إصدارًا فإنه يعتبر من الشعراء السعوديين القلائل في جيله الذين لم توجَّه لهم سهام محاربة الحداثة بالاسم، ولم تحاول أن تصيبهم في مقتل لا حضوريًّا ولا غيابيًّا.
وأخيرًا أرجح أن تجربة الشاعر سعد الحميدين في استقلاليتها كانت نقيضًا للالتزامات المعقدة، لا على مستوى الشكل، ولا على مستوى المحتوى الشعري، دون تخلٍّ عن هوية الشاعر الشخصية والاجتماعية، وعن بصمة صوته الخاصة، ودون التوقف عن الإنتاج الشعري الذي لا يهتم فيه بالتشابه مع أحد، ولا بالتفوق على أحد لا ممن جايلوه ولا من سبقوه. فهي تجربة مكتفية بريادتها الأولى، وبحضورها الدائم، وباستمراريتها لأربعين عامًا بصمود لافت حتى في أوقات العواصف والانسحابات والعذابات بما يجعلها عن استحقاق تجربة شعرية جديرة بالاحتفاء من وطنه ومن محبي الشعر وعشاق المغامرات الإبداعية صنوه.