أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال صاحبي (ابن أبي الآفاق التراثي)، في ثورته «المباركة» على بعض اللغويِّين والنُّحاة التقليديِّين:
- القوم- على ما يبدو- لا ينتقدون أنفسهم، ولا يُحبُّون الناقدين. ذاك لأنْ ليس النقد من أدواتهم، بل ديدنهم التقريض والتمجيد. ولذا تراهم يدهشون لتجرُّؤ أحدٍ على نقد النَّحو أو النُّحاة، مثلًا، ومن ثَمَّ قد يعدُّونه خارجيًّا، تخصُّصًا، أو ربما اعتقادًا. وسرعان ما يَخِفُّون، زرافاتٍ ووحدانًا، لنفيه والتصدِّي له، قديمًا وحديثًا؛ خشية أن يَهُدَّ تاريخًا من التراكمات الفاسدة، والسراديب المظلمة، الداخل فيها مفقودٌ والخارج منها مولود. ولئن كانت سُنن التطوُّر وضروراتها ساريةً على كلِّ ما خلق الله، فإنَّها في مجال العلوم من لوازم وجودها واستمرار نفعها، وإلَّا تحوَّلت إلى ضروبٍ من الطقوس المتوارثة، ضررها أكبر من نفعها. وهؤلاء، الذين يمارسون ذاك الطقس الملهاويَّ من تمجيد الذوات، هم، في حقيقة أمرهم، من جُملة أعداء العَرَبيَّة، وإن حَسِبوا أنفسهم من حُماتها، أو قل: تظاهروا بأنهم كذلك. ذلك أنَّه إنَّما يُخيَّل إليهم أنَّ الحياة تُكتسَب بالتحنيط، فيلُفُّون اللُّغَة وتاريخها بالكثير من خِرَق الماضي، وأدواته، ووسائله البالية، على طريقة قدماء المِصريِّين في تحنيط ملوكهم، رغبةً في استبقاء جثامينهم إلى يوم يُبعثون. وهيهات:
فما يُـجْدي مَعَ الـمَوْتِ التَّداوي! ... وما تُغـْني السُّـيُوفُ على الطَّرِيْحِ!
كَذَا كَذَبُوا ، وبعضُ الحَـقِّ كِـذْبٌ ... يـُواري سَـوْءَةَ الكِذْبِ الصَّرِيْحِ!
- ماذا تقصد بالتحنيط؟
- خذ، مثلًا، يُولَد كتابٌ بعنوان «شذور الذهب»، ليتمخَّض عن كتابٍ آخر عنوانه «شرح شذور الذهب»، ثمَّ ثالث عنوانه «منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب»، ليأتي مستقبلًا من يؤلِّف رابعًا عنوانه: «تُحفة الكُتب في شرح منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب»، ثمَّ خامسًا: «غاية العَرَب بتحقيق تُحفة الكُتب في شرح منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب»، ثمَّ سادسًا: «أعجب العحب في شرح غاية العَرَب بتحقيق تُحفة الكُتب في شرح منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب»! وهلمَّ جرًّا تستمر السِّلسلة إلى يوم الدِّين، بلا غايةٍ تحقَّقت، ولا أربٍ نِيلَ، ولا منتهى وصلنا إليه، ولا جاء جديدٌ ولا ذهب! ويظلُّ الطلبة المناحيس يعمهون في هذه التجارة العتيقة، منذ يدخلون المدارس، وتتردَّى اللُّغَة العَرَبيَّة هنالك من منقلبٍ سحيقٍ إلى منقلب!
- وماذا بعد؟
- ثَمَّةَ صورٌ للتحنيط كثيرة. ومنها إلزام الناس بالسَّماعيِّ وتحريم الأخذ بالقياسي. أعني تخطيء كثير من الاستعمالات المعاصرة بحُجَّة أنَّها لم تُسمَع عن العَرَب، أو لم تَرِد في كُتب اللُّغَة.
- وبالطبع لم يُسمَع كلُّ شيء عن العَرَب!
- بل حتى لو سُمِع كلُّ شيء، وهذا مستحيل، فإن اللُّغَة متطوِّرة، ولو حُجِّرت حسب المستعمَل في عصرٍ بعينه لحُكِم عليها بالموت.
- هل من مثال؟
- قبل المثال، مشكلٌ آخَر. وهو احتجاجهم بورود استعمالٍ في معنى قديمٍ غير المقصود لدَى المستعمِل المعاصر. وكأنَّ هذه ليست بالظاهرة المألوفة في اللُّغَة، من خلال ما يسمَّى بالمشترَك اللَّفظي، وهو أن يكون للكلمة أكثر من معنًى، بل قد يكون للكلمة معنيان متضادَّان، جُمِعت قديمًا في كُتب «الأضداد». فهذا أمرٌ جرت به سُنن العَرَبيَّة، لكنَّه التنطُّع المعاصر، وإيقاع الناس في حَرَجٍ تعبيري. ثمَّ يقال: لماذا يلجؤون إلى التعبير بلغاتٍ أخرى، أو بالعامِّيَّة؟ وما العمل حيال هذا التضييق على مستعملي اللُّغَة، وإنْ وافقوا قياساتها وسننها، غير أنهم استجدُّوا تعبيراتٍ صحيحة، لبلاغيَّاتٍ حادثة، كانت حَرِيَّةً بالترحيب والاحتساب في الرصيد اللِّساني، بوصفها من وسائل الإمداد بإكسير الحياة، والنبض المتجدِّد، والاتساع المعاصر؟ وهؤلاء بناتٌ عَرَبيَّاتٌ، لا سبيل إلى وَأْدِهن، مهما حاول مثاليُّو اللُّغَة.
- ما زلتُ أنتظر المثال!
- مثلًا، يخطِّؤون مستعمِل عبارة «التواجُد»، كأن يقول: «سيكون التواجُد في مكان كذا»، أو «حين تواجدنا في مكان كذا». ناظرين شزرًا إلى القائل: «التواجُد تقوله لامرأتك! وهذا مصطلحٌ صوفيٌّ، فهل حقًّا ستتواجد في المكان الفلاني؟!»
- وما الجواب؟
- الجواب: صيغة «تواجد» صيغة تفاعل، أو مفاعلة، تعني أن يشترك فلان وفلان وفلان في الوجود في مكانٍ ما. فالتعبير قياسًا صحيح. على أنَّه يحمل ظِلالًا بلاغيَّةً، لا يُغني عنها أن يُستبدَل به القول مثلًا: «سيكون الوجود أو الحضور في مكان كذا». أمَّا التُّواجُد النفسي، فمعنى آخَر. وهو أن يُرِي المرءُ من نفسه الوَجْد. ومنه التواجُد الصُّوفي، في طقوسٍ حركيَّةٍ راقصة، تُشبِه الرقصة الشَّعبيَّة المعروفة، في (الأردن) وشَمال الجزيرة العربيَّة، بـ(الدَّحَّة). وفي الأديان موروثاتٌ بدائيَّةٌ منكَرة، تُعلِن عادةً نزوعها إلى تغييب «الحضور العقلي»، لاستحضار «العَتَه النفسي»؛ وكأنَّ العقل وخالقه لا يجتمعان! فهذه غُرزة دلاليَّة وتلك غُرزة دلاليَّة! ولا حُجَّة هاهنا في تخطئة الاستعمال الدارج لعبارة «التواجُد».
- وأين المُشْكِل في تحديد دلالات الألفاظ ليسهل الفهم، ولا تتعدَّد المعاني، فيضلّ السامع أو القارئ؟
- المُشْكِل في خنق اللُّغَة عن التنفُّس، وتقييدها بما لا وجاهة لتقييدها به. والتضييق على مستعمليها، حين ينطقون أو حين يكتبون؛ حتى ترى أحدهم يقلِّب طَرفه ولسانه، ماذا يقول؟ وكيف يُعبِّر؟ وإذا فُتِح عليه، انتهى إلى صَيَغٍ نمطيَّةٍ باردةٍ سمجة، قد تؤدِّي المعنى، ولكن كما تؤدِّي لُغة الإشارة المعنى، خلوًا من بلاغة التصوير والتعبير، فضلًا عن تكلُّفها تكلُّفًا نابيًا. أمَّا تحديد الدِّلالات، فضربٌ من المستحيل، لكنَّ للإنسان وسائله إلى فهم المعاني، من أهمها (سياق الكلام).
- أ ولا ترى وراء هذا التحريج دافعًا فوق لُغوي؟
- بلَى أرى. والمرء الذي يحمل هذه الحساسيَّة هو كالآخَر الذي يخطِّئ استعمال عبارة مثل «يُكرِّس»؛ لأنه يشتمُّ منها عَرْفًا كَنَسيًّا، فيقول لك: «قُل يُرسِّخ، ولا تَقُل: يُكرِّس، هداك الله!»
- ولِمَ لا أقول هذا وأقول ذاك، بحسب السياق، ومقامات التعبير؟!
- هذا هو الأصل. لكنَّ هؤلاء لا يتعاملون مع اللُّغَة بوصفها لُغَة، بل بمعايير أخرى، من المحرَّمات والحساسيَّات التي لا تنتهي، وإنْ كانت تنتهي بالعَرَبيَّة إلى طُرقٍ مسدودة، كثيرًا ما تضطر العَرَبيَّ إلى الخروج منها خروجًا نهائيًّا، إلى إحدى سبيلين، لا ثالث لهما، إمَّا إلى العامِّيَّة، وإمَّا إلى لُغَةٍ أخرى من اللغات الحيَّة المعاصرة. فهذا، إذن، هو الضرب الآخَر من التحنيط اللغوي، وهو الإلزام بالسَّماعيِّ وتحريم القياسي. ولا بواكي للعَرَبيَّة هاهنا، إلَّا من المحنِّطين أنفسهم، إمَّا لأنَّ حنوطهم لم يعُد يكفي جسد اللُّغَة، وإمَّا لأنَّ الحياة ما زالت في شرايين اللُّغَة نابضة؛ فهي تتملَّص من بين أيديهم، متأبِّيةً على قَمْطِها حسب مقاييس التحنيط المرسومة في دهاليز الكهوف الماضويَّة المتناسلة!