إعداد - صبار عابر العنزي:
لُقِّب في الهند بصاحب النفس العظيمة أو القديس؛ وذلك لنبل أخلاقه وسموه وترفُّعه عن الرذائل؛ واشتهر بأنه أبو الهند الحديثة؛ حيث كان زعيماً بارزاً في حركة استقلال الهند عن الحكم البريطاني، وانتهج مبدأ اللاعنف، والعصيان المدني للحصول على استقلال الهند. تمرَّد في سن المراهقة على المعتقدات الدينية الصارمة لعائلته، وكان يأكل اللحوم ويذهب إلى بيوت الدعارة، على الرغم من أنه قال إنه لم يستمر في هذا السلوك. وكتب لاحقاً: «وقعت بين فكّي الخطيئة، لكن الله برحمته الواسعة حماني من نفسي».
في الثامنة عشرة من عمره تزوج من «كاستورباي» التي ظلت على وفائها له خلال مغامراته كلها وغناه وفقره وسجنه.. اتهم بالخيانة العظمى في أواخر أيامه وتم اغتياله على يد بعض المتشددين من الهندوس؛ نتيجة لآرائه المتعاطفة مع الجالية المسلمة في الهند واعترافه بحقها بممارسة شعائرها الدينية.
ولد المهاتما غاندي في 2 أكتوبر 1869م في پوربندر بمقاطعة گجرات الهندية، وتنتمي أسرته إلى طبقة المذهب الجانتي، ومن مبادئها التي مارستها مبدأ أهِمْسا وهو ألا يُنزِل أحدٌ الأذى بكائن حي، وكان أبوه إدارياً قادراً.
سافر إلى لندن ليدرس القانون في 1888م، ولما كان في السنة الأولى هناك، قرأ ثمانين كتاباً عن المسيحية؛ وقال عن موعظة الجبل «إنها غاصت إلى سويداء قلبي عند قراءتها للمرة الأولى»، واعتبر مبدأها بأن يُرَدَّ الشرُّ بالخير وأن يحب الإنسان كلَّ الناس حتى الأعداء.
وعقب عودته إلى الهند؛ سنة 1891م؛ مارس المحاماة حيناً في بمباي؛ فكان يرفض أن يُتهم أحدٌ من أجل دينه، ويحتفظ لنفسه دائماً بحق ترك القضية إذا ما وجد أنها تتنافى مع العدل؛ وقد أدت به إحدى القضايا إلى السفر إلى جنوبي أفريقيا، فوجد بني قومه هناك يلاقون من سوء المعاملة ما أنساه العودة إلى الهند، واتجه بجهده كله -بغير أجر- إلى قضية بني وطنه في أفريقيا ليزيل عنهم ما كان يصفدهم هناك من أغلال؛ ولبث عشرين عاماً يجاهد للوصول إلى هذه الغاية حتى سلَّمت له الحكومة بمطالبه، وعندئذ فقط عاد إلى أرض الوطن.
وكان طريق سفره يخترق الهند، فتبيَّن له للمرة الأولى فقر الناس فقراً مدقعاً، وأفزعته الهياكل العظمية التي شهدها تكدح في الحقول، والمنبوذين الوضيعين الذين كانوا يعملون أقذر الأعمال في المدن؛ ورأى أن ما يلاقيه بنو وطنه في الخارج من ازدراء، إن هو إلا إحدى نتائج فقرهم وذلهم في أرض وطنهم.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتحرك الشعب مطالباً «بالحكم الذاتي»، صدرت قوانين رولَنْد وقضت على حرية الكلام والنشر، بإنشائها تشريعاً عاجزاً للإصلاح يسمى «مونتاجو - شلمز فورد»، ثم جاءت مذبحة أمرِتسار فأجهزت على البقية الباقية؛ ونزلت الصدمة قوية على غاندي، فقرر من فوره عملاً حاسماً، من ذلك أنه أعاد لنائب الملك الأوسمة التي كان قد ظفر بها من الحكومات البريطانية في أوقات مختلفة، ووجَّه الدعوة إلى الهند لتقف من الحكومة الهندية موقف العصيان المدني، واستجاب الشعب لدعوته.
قررت الحكومة القبض عليه في مارس 1922م، فلما توجه إليه النائب العام بتهمة إثارة الناس بمنشوراته، حتى اقترفوا ما اقترفوه من ألوان العنف في ثورة 1921م، أجابه غاندي بعبارة رفعتْه فوراً إلى ذروة الشرف، إذ قال:
«أردت أن أجتنب العنف.. وما زلت أريد اجتناب العنف.. فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني.. وهو كذلك المادة الأخيرة.. من مواد عقيدتي. لكن لم يكن لي بُدٌّ من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضرراً يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي، إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحياناً، وإني لآسف لهذا أسفاً شديداً، ولذلك فأنا واقف هاهنا لأتقبل، لا أخاف ما تفرضونه من عقوبة، بل أقسى ما تنزلونه من عقاب؛ إنني لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب، إنني هنا - إذن - لأرحب وأتقبل راضياً أقسى عقوبة يمكن معاقبتي بها على ما يعدّه القانون جريمة مقصودة، وما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه».
وعبر القاضي عن عميق أسفه لاضطراره أن يزج في السجن برجل يعدُّه الملايين من بني وطنه «وطنياً عظيماً وقائداً عظيماً»، واعترف بأنه حتى أولئك الذين لا يأخذون بوجهة نظر غاندي، ينظرون إليه نظرتهم إلى «رجل ذي مثل عليا وحياة شريفة بل إن حياته لتتصف بما تتصف به حياة القديسين.
كان مرضه بالزائدة الدودية طريق خلاصه من السجن، كما كان الطب الغربي الذي طالما أنكره، طريق نجاته من المرض؛ وتجمع عند بوابات السجن حشد كبير لتحيته عند خروجه وقبَّل كثيرون منهم ثوبه الغليظ وهو ماضٍ في طريقه..كانت جنوب أفريقيا مستعمرة بريطانية كالهند، وبها العديد من العمال الهنود الذين قرر غاندي الدفاع عن حقوقهم أمام الشركات البريطانية التي كانوا يعملون فيها.
وتعتبر الفترة التي قضاها بجنوب أفريقيا (1893 - 1915م) من أهم مراحل تطوره الفكري والسياسي، حيث أتاحت له فرصة لتعميق معارفه وثقافاته والاطلاع على ديانات وعقائد مختلفة، واختبر أسلوباً في العمل السياسي أثبت فعاليته ضد الاستعمار البريطاني.
وأثرت فيه مشاهد التمييز العنصري التي كان يتبعها البيض ضد الأفارقة أصحاب البلاد الأصليين أو ضد الفئات الملونة الأخرى المقيمة هناك.
قرر غاندي في عام 1932م البدء بالصيام حتى الموت؛ احتجاجاً على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد المنبوذين الهنود، مما دفع بالزعماء السياسيين والدينيين إلى التفاوض والتوصل إلى اتفاقية بونا التي قضت بزيادة عدد النواب «المنبوذين» وإلغاء نظام التمييز الانتخابي.
ولما اقتتل المسلمون والهندوس، وأخذوا يصرعون بعضهم بعضاً مدفوعين بحماسة دينية، ولم يصيخوا إلى دعوته إياهم للسلام، صام ثلاثة أسابيع رجاء أن يحرك العطف في نفوسهم، ولقد أدى به الصيام والحرمان الذي كان يفرضه على نفسه، إلى ضعف وهزال.
وفي عام 1940م عاد إلى حملات العصيان مرة أخرى فأطلق حملة جديدة؛ احتجاجاً على إعلان بريطانيا الهند دولة محاربة لجيوش المحور دون أن تنال استقلالها، واستمر هذا العصيان حتى عام 1941م. وبانتهاء عام 1944م وبداية عام 1945م اقتربت الهند من الاستقلال وتزايدت المخاوف من الدعوات الانفصالية الهادفة إلى تقسيمها إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، وحاول غاندي إقناع محمد علي جناح الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته لكنه فشل. وتم ذلك بالفعل في 16 أغسطس 1947، وما إن أعلن تقسيم الهند حتى سادت الاضطرابات الدينية عموم الهند، وبلغت من العنف حداً تجاوز كل التوقعات فسقط في كلكتا وحدها على سبيل المثال ما يزيد على خمسة آلاف قتيل.
وقد تألم غاندي لهذه الأحداث واعتبرها كارثة وطنية، كما زاد من ألمه تصاعد حدة التوتر بين الهند وباكستان بشأن كشمير وسقوط العديد من القتلى في الاشتباكات المسلحة التي نشبت بينهما عام 1947/ 1948م، وأخذ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين طالباً بشكل خاص من الأكثرية الهندوسية احترام حقوق الأقلية المسلمة.
وأستطيع القول إن غاندي سبق عصره بوعيه إذ يرى أن العنف رذيلة وتعبير عن الحقد، وبالتالي فلا مشروعية له. ويتبنى موقفاً حاسماً وقطعياً ألا وهو «لا للعنف»؛ باعتباره يمثل ذلك الحب أو الإرادة الطيبة تجاه كل الناس، ولذلك فهو يرفض السلوك العنيف لأن وراءه نية من أجل إلحاق الأذى والألم بالآخر، كما أنه تعبير عن الحقد الذي تعبت الإنسانية من عواقبه الوخيمة ويدعو إلى تعميم الصداقة بين كل الناس، ومكافحة العنف والشر بسلاح الفكر والأخلاق، وهو ما يقتضي مواجهة العنف بمقاومة روحية تمكن من خلق خيبة أمل لدى الممارس للعنف.
لم ترق دعوات غاندي للأغلبية الهندوسية باحترام حقوق الأقلية المسلمة، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية المتعصبة خيانة عظمى فقررت التخلص منه، وبالفعل في 30 يناير 1948م أطلق أحد الهندوس المتعصبين ثلاث رصاصات قاتلة سقط على أثرها المهاتما غاندي صريعاً عن عمر يناهز 79 عاماً.
السؤال المر هو لماذا لم يحصل على جائزة نوبل للسلام، خاصة أنه تم ترشحه 5 مرات، لكنه لم يحصل عليها؟!
لم يكن غاندي قائداً ومناضلاً فقط بل مفكر، وما زالت كلماته المختصرة تعطي دروساً للأجيال مثل قوله: «رماني الناس بالحجارة.. فجمعتها وبنيت بيتاً «،
ودلالة كلمة «المهاتما» تعني الروح العظيمة، وهو يعد الأب الروحي لحركة الاستقلال الهندية رغم ذلك كانت حياته مليئة بالبساطة والفضائل التي جعلته محبوباً من الشعب.
إن إنجازات غاندي كثيرة فمثلاً في جنوب إفريقيا إعادة الثقة إلى أبناء الجالية الهندية المهاجرة وخلصهم من عقدة الخوف والنقص ورفع مستواهم الأخلاقي، وقام بإنشاء صحيفة «الرأي الهندي» التي دعا عبرها إلى فلسفة اللاعنف.. كما أسس حزب «المؤتمر الهندي للناتال» ليدافع عبره عن حقوق العمال الهنود ومحاربة قانون كان يحرم الهنود من حق التصويت.
أطلقت بريطانيا طابعًا رمزيًا تكريمًا له بعد مرور 21 سنة على وفاته، ومن المعروف حدوث الكثير من المراسلات بين غاندي وعدد من الشخصيات التاريخية مثل تولستوي، وهتلر، وأينشتاين وغيرهم.
وقد استطاعت صحيفة لوفيجارو الفرنسية إجراء مقابلة مع أرون غاندي حفيد الزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي والد الأمة الهندية.. وقال الحفيد إنه أصبح يخشى على الإنسانية جمعاء من العنف المنتشر بكثرة في كل بقاع الأرض، ونوه حفيد الزعيم الهندي أن أصل رسالة «غاندي» كانت الابتعاد عن العنف الذي يكمن في دواخلنا كبشر.
وأشار بقوله «علينا دوما ممارسة اللاعنف من خلال استخدام الرحمة تجاه الجميع»، مسترشدًا بقول جده «يجب أن يصبح اللاعنف وسيلة للحياة، وهذا ليس معطفاً يمكن ارتداؤه في وقت وتركه في وقت آخر، إنها طريقة حياة».
وبشأن الحروب المنتشرة في الشرق الأوسط يقول حفيد غاندي «أصبحت أخشى على الإنسانية، إذ يسعى البعض لاستغلال وسائل كثيرة منها استخدام الدين للسيطرة على الآخر، إننا نشهد أسوأ أشكال العنف من عنصرية واضطهاد وحروب وهولوكستات تمارس باسم الله على كل الجبهات».
وأضاف بقوله «عمل جدي كثيرًا لجمع الناس على اختلاف دياناتهم، وجهوده شجعت الكثير من المسلمين على الشجاعة والثقة للبقاء والعيش في الهند على الرغم من قيام دولة المسلمين في باكستان»، معربًا عن اعتقاده وإيمانه بالطبيعة غير العنيفة للإسلام.
وقد أخرج أتينبورو وهو من أشهر السينمائيين البريطانيون فيلم «غاندي وفاز بسلسلة من الجوائز العالمية وبلغت تكلفته 22 مليون دولار أمريكي وعرض في عام 1982م وحصل على 8 جوائز أوسكار، من بينها أوسكار أفضل مخرج وهو ما يعتبر رقما قياسيا لأي فيلم بريطاني.
يحكى أن غاندي كان يجري بسرعة للحاق بقطار وقد بدأ القطار بالسير، وعند صعود القطار سقطت من قدمه إحدى فردتي حذائه، فما كان منه إلا خلع الفردة الثانية وبسرعة رماها بقرب الفردة الأولى على سكة القطار.. فتعجب أصدقاؤه وسألوه: ما حملك على ما فعلت؟
لماذا رميت فردة الحذاء الأخرى؟
فقال غاندي الحكيم: أحببت للفقير الذي سيجد الحذاء أن يجد فردتين فيستطيع الانتفاع بهما، فلو وجد فردة واحدة فلن تفيده ولن أستفيد أنا منها أيضاً.
** **
Sabbar2013@hotmail.com