د.عبد الرحمن بن سليمان بن محمد الدايل
يدرك الناس أن الحياة الوظيفية هي أهم مرحلة في حياتهم، فيسعون ما وسعهم السعي للاستعداد لها -منذ الصغر- بالدراسة وتحصيل العلم، واكتساب الخبرات، والتزود بالمهارات العملية التي تؤهلهم - كما يقولون - لسوق العمل، ويشحذون همم أبنائهم وإمكاناتهم وخبراتهم حتى يصلوا للوظيفة التي يرونها ملائمة لهم، ومناسبة لتحقيق طموحاتهم، حتى إذا وصلوا إلى مبتغاهم بدؤوا مرحلة جديدة من العمل على تحسين أوضاعهم الوظيفية، والتدرج في سلم الوظائف. ولا ضَيْرَ في ذلك؛ فالوظيفة ترتبط بالمستقبل، وبالحياة الآمنة السعيدة التي يسعى إليها الناس، غير أن بعضهم يتغافل أو ينسى أن فترة الحياة الوظيفية -طالت أو قصرت- تمثّل فترةً انتقالية بين المرحلة التعليمية التأهيلية وحياتهم بعد إحالتهم للتقاعد، فيعيش هذا البعض خلال سنوات عمله، وتدور به عجلة الروتين، ولا يُلقي اهتمامًا كافيًا لواجباته ومسؤولياته، بل قد يغفل سرعة مرور الزمن الذي سيخرجُه -بلا شك- من دائرة العمل، ويصل به إلى سن التقاعد، دون أن يكون قد ترك بصمة تُسنَد إليه أو تقترن باسمه.
أمَّا مَنْ يصل إلى أعلى المناصب، فأولئك تتضاعف عليهم المسؤوليات، وتتزايد عليهم الأعباء، وكان الله في عون مَن يأخذ منهم الأمور بحقّها، وأدرك أن المناصب لا تدوم، وأنها لو دامت لغيره لَمَا وصلت إليه، فإذا به يشمِّر عن ساعد الجد والاجتهاد، ليتحمل المسؤولية، ويؤدي أمانة المنصب الذي سيتحمله لفترة محدودة قبل أن يُسنَد إلى مَن يجيء بعده. والسعيد من المسؤولين هو الذي يسير على نهج هذه البلاد المباركة التي أرسى فيها الملك المؤسس عبد العزيز -رحمه الله- سياسة الباب المفتوح، فجعل الأبواب مُشرَعة بين المسؤول والمواطن، حتى تميَّزت المملكة -أعزَّها الله- بهذه السمة بين دول العالم، وصارت مضرب المثل في التواصل والتفاهم والتلاحم بين الراعي والرعية، فصار كل مسؤول على وعيٍ وإدراك لحجم ما يُسنَد إليه من مسؤولية، وما يتم اختياره له من موقع، وشهدت مختلف ميادين العمل الأخلاقيات الكريمة المنصفة للمسؤولين الذين ضربوا المثل في تحمُّل الأمانة بجديةٍ وتفانٍ وإخلاص، تحيط به وتزيّنه ابتسامتهم وبشاشتهم في مقابلة المراجعين على مكاتبهم بحيث يسهل عليك أن تصفهم بقول الشاعر:
تَراه إذا ما جئتَه مُتهلّلاً
كأنك تُعطِيه الذي أنتَ سائِلُه
غير أن البعض ممن يظنون أن وصولهم لمنصبٍ مسؤول هو تشريفٌ لهم، أو احتفاءٌ بهم، يُخطئون في حقّ أنفسهم قبل أن يخطئوا في حق غيرهم؛ فهم قد نظروا لموقع المسؤولية نظرة دوامٍ واستمرار، فحجبُوا أنفسهم، وتوارَوْا خلف أوهامهم التي صوَّرتها لهم عقولهم، ونسُوا أن موقع المسؤولية هو تكليفٌ قبل أن يكون تشريفًا، وأنه موقعُ مساءلة وليس موقع مجاملة، وهو موقعٌ للعمل وليس كُرسيًّا للكسل، وهو موقعٌ لخدمة الجميع وفاءً بالمسؤولية وأداءً للأمانة في هذا العهد الميمون الذي يستند إلى المساءلة والشفافية. فكم من مسؤولٍ قد أُطيح به حين حَاد عن جادةِ الطريق، أو ظنَّ أن موقعه مكسب أو مغنم له .
وأمثال هؤلاء -وهم قِلة ولله الحمد- يجعلون من الواجب على مؤسسات التربية والإعداد أن تفكّر في كيفية ضبط السلوك منذ وقت مبكر في حياة الناشئة قبل أن تستفحل الأمور عند البعض، وتغيب عنهم بوصلة التوجُّه المسؤول. ولن يتسنَّى لمؤسساتنا ذلك دون أن تجعل تعليم القيم الإسلامية والعربية الأصيلة بؤرة ارتكاز أساسية في مناهجها حتى نُعدَّ أجيال المستقبل لتحمّل المسؤوليات بحقِّها، فإذا ما وصل الموظف المسؤول لموقعه أدرك عن جدارة أنه غير مخلَّد في الحياة، وأنه غير دائم في موقعه، وأن العلاقات القوية المتينة بين الناس لا تنقطع بسبب تسنُّم ذُرَا مسؤولية، أو بسبب محاولة إِيهام النفس بوضع خطوطٍ لشخصية جديدة تَتناسى حتى مَن أحسن إليها في جحود ممجوج، ونكرانٍ للجميل غير مبرر، فيحيط نفسه بأسوارٍ من السكرتارية بحجة ألا يزعجَ نفسه أو يزعجه أحد عن أداء مهامه، من غير اعتبار بقول القائل:
وأعزُّ ما يبقَى وِدادٌ دائم
إن المناصبَ لا تدومُ طويلا
أو مِنْ غير عبرةٍ ودرسٍ وعظةٍ من قول الشاعر:
إن المناصبَ لا تدومُ لواحدٍ
إنْ كنتَ في شكٍّ فأيْن الأوَّلُ
فاصنعْ من الفعلِ الجميلِ فضائلًا
فإذا عُزلتَ فإنَّها لا تُعزلُ
ولا يُفهم من الحثِّ على الودّ والصداقة والمحافظة عليهما أنه دعوة لتجاوز نظامٍ، أو كَسرٍ للائحة، ولكنْ هي دعوة صادقة لأنْ تكونَ العلاقات بين الناس قائمة على أسس قوية من ديننا الحنيف الذي حثَّنا على الأخلاق الفاضلة في التعامل مع الناس، وحفظ المودة بين الأصدقاء، ورد الجميل إلى مقدّميه؛ فقد قال سيد الخلق رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-: «من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه».
وهي دعوة أيضًا إلى مَنْ يصل إلى موقع مسؤولية أن يتذكر دائمًا أنها أمانة، ويحتاج أداؤها بحقٍّ إلى التحلّي بالخلق القويم الذي يرتفع بصاحبه حتى لا يدخل في الدائرة المنهي عنها في كتاب الله الكريم في قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.
وكان الله في عون مؤسساتنا التعليمية؛ فالواجب عليها كبير في التربية والإعداد للمستقبل.
والله الموفق.
** **
- وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام (سابقًا)