اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
والمزاح الممنوع غالباً ما تكون عاقبته وخيمة لما ينجم عنه من إيغار الصدور وجلب الشرور عن طريق بذر بذور العداوة بين المتمازحين، ممهداً الطريق لتدخل الشيطان لكي ينصب حبائله لاصطياد ضحاياه والايقاع بهم جاعلاً من هم عرضة للوقوع في المحظور والويل والثبور نتيجة لتجاوز الحدود في المزاح بشكل يفضي إلى نهاية ذميمة يغلب عليها الهوى وتنزل بصاحبها إلى مهاوى الردى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «المزح استدراج من الشيطان واختلاس من الهوى»، وقال: «لا تمار أخاك ولا تمازحه، وقال عمر بن الخطاب: امنعوا الناس من المزاح فإنه يذهب المروءة ويوغر الصدور، ويؤثر عنه أنه قال من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخُف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، وقال عمر بن عبدالعزيز: «اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيحة، وقال أيضاً: امتنعوا من المزاح تسلم لكم الأعراض، وقد قال الشاعر:
مازح صديقك ما أحب مزاحاً
وتوق منه في المزاح جماحا
فلربما مزح الصديق بمزحة
كانت لباب عداوة مفتاحا
والمزاح الممنوع يتخذ صوراً عدة، منها ما يكون فيه إساءة إلى الدين، ومنها ما يؤذي الآخرين، خارجاً عن آداب المزاح المشروع وضوابطه إلى الحد الذي يضر بالمازح والممزوح معه من جراء ما يؤدي إليه من اكتساب الذنوب وقسوة القلوب، وإثارة العداوة وإشعال نار الحقد والبغضاء خالقاً بيئة صالحة للتدابر والقطيعة وذهاب الوقار والهيبة، ومرد ذلك يعود إلى خروج المزاح من صيغته المحمودة إلى الصيغة المذمومة التي يغلب عليها ما يعرف بالمزح الثقيل أو إطلاق العنان للمزاح دون أن يراعي الذي يمزح ما يمكن أن يؤول إليه ذلك من آفات ومنغصات تجر إلى القبيحة، وتورث الضغينة وتفتح الباب للهموم والغموم، وقد قيل المزح أوله فرح وآخره ترح، وقيل: احذر فلتات المزاح فسقطة الاسترسال لا تقال، وقال: أكثم بن صيفي قد يشهر السلاح في بعض المزاح.
والواقع أن المزاح الممنوع يذل صاحبه، ويحط من قدره بسبب ما يجني على نفسه من التسفيه بها والتقليل من شأنها من خلال ما يتلفظ به من ألفاظ هابطة تكشف عن همة ساقطة مما يتطلب من الإنسان السوي أن يلتمس لنفسه ما يزينها، وينأى بها عما يشينها بما في ذلك المزاح الممقوت الذي تنفر منه طباع الأخيار وتمجه أسماع الأحرار من أصحاب الهمم العالية وأرباب النفوس العزيزة، وقد قال الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه
يجرّي عليك الطفل والرجل النذلا
ويُذهب ماء الوجه بعد بهائه
ويورث بعد العز صاحبه ذلا
والذي يمزح كثيراً تقل هيبته، وتختل شخصيته، مهما حاول المحافظة على تحييد سلبيات المزاح، لأن الإفراط في ذلك كفيل بجعل الانطباع السائد عنه يتأثر في الاتجاه السلبي من جراء ما عرف عنه من كثرة المزاح إلى الدرجة التي يصبح معها محلاً للاستخفاف، منطبقاً عليه قول عمر بن الخطاب: إن من مزح استُخف به ومن أكثر من شيء عرف به.
ومن طبع الأدباء والعقلاء الترفع عن الممازحة والهزل لأن كثرة المزاح تذل المرء، وتضع القدر، وتفسد المروءة وتنال من الأخوة، علاوة على أن المزاح يفتح الباب لتطاول أهل الدناءة والشر على كل شريف حر، حيث إن من اعتاد المزاح وعرف عنه هان على غيره، وخاصة لئام الناس الذين يتطاولون على من خفض لهم الجناح وتواضع لهم عن طريق المزاح، وقد قال سعيد بن العاص: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك وقال الشاعر:
وإياك من فرط المزاح فإنه
جدير بتسفيه الحليم المسدد
وفي الختام فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يمزح، ولا يقول إلا الحق، وينبغي ألا تتخذ الحالات التي مزح فيها حجة للإفراط في المزاح، وتجاوز حدود المداعبة المنضبطة إلى المزاح المنفلت والمنطق الهزلي الممقوت الذي يصبح صاحبه عرضة لازدراء الكريم واجتراء اللئيم جاعلاً من نفسه مكاناً للاستخفاف به والحقد عليه وقد قال سليمان بن داود عليهما السلام: المزاح يستخف فؤاد الحليم، ويذهب بهاء ذي القدرة، وقال الأحنف بن قيس: لا يسود ممازح ولا يعظم مفاكه، وقال: من كثر مزاحه ذهبت هيبته، ومن كثرة ضحكه استخف به.
والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ ولا ينطق عن الهوى، ومداعبته لأصحابه تنطلق من حكمة أرادها بهدف إحلال الألفة محل الوحشة لضمان تقريب أصحابه إليه واستمالة قلوبهم من أجل تقبل ما يُريد، وفهم ما هو مطلوب منهم، والمزاح المفيد الذي يتخذ المباسطة ولا ريبة فيه عادة ما يلجأ إليه الممازح الشريف والحر العفيف لتقريب ذي الحاجة إليه والتمكين من الدالة عليه مع الأخذ في الحسبان أن المزاح المشروع عارض لمصلحة ولا يترتب عليه مفسدة وأن المباسطة والدعابة من أخلاق ذوي الدماثة واللباقة، وتحتل مكاناً وسطاً بين التزمت والمزح المذموم، ولا يجيد فنها إلا أصحاب المروءة والأدب الذين يجمعون بين أدب النفس وأدب الدرس، وقد قال علي بن أبي طالب: من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر.
ومن كان الدين هو رائده وقائده في جميع أموره فإنه يفعل الأشياء بموجب هديه ويتجنبها طبقاً لنهيه عارفاً من يمزح معه وفقاً لضوابط المزاح المشروع في الزمان والمكان المناسبين، نائيا ً بنفسه عن المزاح المحظور في جميع الأمور، فلا مزاح فيما يتعلق بثوابت الدين وشعائره وأحكامه، ولا مزاح فيما يلحق ضرراً بأحد ولا يجعل المزاح سمتاً لازماً وعادة دائمة، بل يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يمزح ولا يقول إلا حقاً بعيداً عن الإفراط في المزاح أو المداومة عليه.