عبدالمحسن بن علي المطلق
مهما أمليت فإني في وصفها لن أفي.. فظلُّها كان الحب وثمر عطائها يانع، عدا (عنوانها)الذي سحنته اللطف وسمته وجهٌ باسم، وأما القلب فهو وضيء وبالحنان عامر.. وإن ظننا أنه غامر بين مواليف يحاكونه -مثله-، لكنه بلا شك قد تزيل ببدعٍ صنيع، بصبغة كثرة السؤال عنك.
ما يجعلك تقف أمامه.. لا أقول وقفة المرتجف، لكن الحيران، بين مفارقة تتبعك حبا من قِبله، وبين تهاونٍ إزاءه ترخّصا، أو هكذا البعض يلوي وجهة التعذير لتماديه، أي ليس استخفافاً بقدر أحبابه، حين يفرّط في جنب حقوقهم التي عليه!
(ربما) خالط ذاك الترخّص للهمّة إن تضعضعت في التعزّي للذات أملاً أن في القابل سعة أكبر مما لأولئك عِوضا في مساحة ما لهم في قلبك إن كبا وقتك أن يساعفك، فيمضي القابل بل وما بعده إلا وساعة المنيّة حضرت الغالي..، فما أنت - يا هذا - فاعل؟
طبعا خلاف عضّ أنامل الندم.. التي سُبقت إليها ممن بيوم نَصح ووعّى فما أوعى لهنّة تساعف أن يجد لك معاذير لمن قصرت في حقهم من الولائف.
فما أن يحلّ هذا الغائب.. وهو القريب البعيدُ، أعني (الأجل) حتى تضرب نوعيتك أخماساً بأخماس.. على ما ضيّعت من فرص.. فُرطا، وكم كانت تترا، لكنك في سكرة دنياك شبه عمه عن استغلالها.
وحتى إن تشفّعت أن حسبك ما تحمل للفقيد بين جنبيك من تقدير طاهر السحنة بل بعضه ظاهر مما تمليه عليك ذاتك إزاءه.
ما لا يخفى، وبضع ما يوازي مقام ذاك (الكنز) الذي ينوء بحمله أولئك أهل العذل مهما صبّوا عليك من ماء الملامة، أو طالوك بسياط المعتبة.
أجل.. يذهب ذاك الجيل ليلقي على كاهل مَن بعده التبعات الكُبرى التي كان يحملها، وكأن لسان حال نصحه/ إياك أن تفرِّط بثمين ما جمعنا من ملاك شيم.. أنت - لا يخافاك -كم أخذت منّا، حتى بعد جهد تنقطع دونه أكباد الإبل لنبلغ فتمسي عنواناً لنا.
أسطر تحسّر لا بدّ من بثّها قبل أن أملي عن وجه كئيّب حلّ (يوم الوداع..)، الذي حتى الهدايا فيه.. نسيناها، وأعني / مضي الخالة (زوجة أبي) وأمّ قرّة عين.. بندر وهند/ مقام
حصة بنت عبد الله التويجري.
رحمه الله ووالديها، وجمعنا بهم ووالديّ بمستقرّ رحمته..
من بعد أن أمضت السنين الأخيرة من عمرها تنقلا بين دارها وبين المشفى، ثم.. مع هذا الامد أتظن أنها شكت أو اكفهرّت؟.. أبدا!، حاشاها وهي التي تحسبها جُبلت على الصبر، خلاف ابتسامتها المعهودة، إذ بعزّ آلامها وكالح حالها إلا وتنفر من بين ثناياها، ولكأنها مرسومة على ثغرها لغالب ما تلفى وجهها المتفتح.. وعنه يـبرّح، مصحوباً بحبها الفارط الذي يجعلك تخجل أن تسألها عن صحتها، وهي على حال تظهر أنها بنعماء المتعافي ترتع، فتلك نوعية نفيسةٍ، ممن يظهر تمام الانشراح حتى يتمنى الناس أنهم في ثيابي!
جيل عجيب، وإن داخلته حضارة عصرنا، إلا أنه (وإن لم يناكفها كثيرا)، لكنه بقي عصياً أن تأخذ منه أجمل ما عنده، أعني تلك السجية السمحة الكثيفة الرواف.
أجل همُ غريبو الشأن، لكن الذي ليس بغريب حين يطوى من العمر ما يمضي وتتغير الحال إلا تلك النوعية، فقد بقيت متشبثةً بما عُهد بأمثالها ممن بحق يقال بها:
هنيئاً له.. قد طاب حياً وميتاً
فما كان محتاجا لتطيب أكفاني
إذ مضت على حال جليل الأثر، لكم ساورنا التبصر به عن جنب عسانا نقع على السبب، فما بلغناه وعجب أكبر أننا ما توجسنا للرحيل حينٌ في أُفقنا إلا وأصخينا لخبر فزعنا إلى تكذيبه (غابت....)، فما اسّطعنا له نقبا.
أجل مضت لمولاها (رحمها ربها) كأترابها ممن ما عرفنا قدرهم إلا بعد مدى قطعناه، يوم جُبنا بِيدَ الحياة، وخضنا عن كثب ما خاضوه من «التربية»، لنقف بأم أعيننا على ما بلغوا، وقد ذاقوا أضعاف ما ذقنا، إذ لم تخدمهم على المهمة (خدم) ولا ساندهم على المهام حشم، أو تقنية (ساعدت)، فلم يتبرّموا بجزئية مما نفثنا.
فنحن (.. جيلنا) بلا مواربة لم نقاسِ شطر ما غشاهم، ومع ذلك ضقنا - ذرعاً - بمواضع كثّـةً هي (لو قستها) دون الشطر من تعبهم ويزداد العجب أننا نلاجّ هذا الوضع... وكأننا في عتو أو نفور مما نتغشاه وكثيف ما عاضدنا بما مدتنا به معطيات زماننا بلا أمنةً.. تحتاط فتخفف من الاتكاء عليه، مخافة أن يكون كالعهن المنفوش، أي الصوف الملون.. المخادعة ألوانه، إذ كم ممن (يلمع.. وليس بذهب)، هذا.. و(عجبٌ يفرق جملة ما تقدّم) مما لا مرآة حياله أننا نفوق أواسطهم بالعلم، وأقصد تحديداً الشهادات التي نلناها، والعلم الذي حزناه، لكن كأن المفارقة هذه تحدث لنُخرج من أكناننا مثلاً ضُرب سلفاً ليماثل به الحال (اسأل مجرب ولا تسأل طبيب).
مما توحي الحالة أن الدنيا بها ما بها من العسر.. لكننا (لو دققنا) لوجدنها أو أُوتيناها من جانب يسرها .. مما لم يتضوره أولئك، وما جابهه جيل ذلكم من غابر ما صالهم .. سواء في شظف عيشهم، أو ما قُدر عليهم به من الرزق في أوجه معاشهم!
و.. لولا مخافة الإفراط - في جلد الذات - لأمليت نزراً مما نعاتب به حالنا.. بل أحسبني لو أكثرت لما طالني ملام من حصيف، يقيس قبل أن يغيص.. أقصد قبل أن يلوم!
ثم... وكعادة القلوب تنزوي إلى جراحها.. فأتراح ما (تُكابد) تطغى على بقية أفراح قد تعلو أحايين إلى توجّه تلقاء سراب محصّلته ويك وكأنه وقف على ندب البُعد فحسب
وقد يكون لا أسى أو ندامة على حلول البين..
فكيف به إن كان بلا لقاء مأمول، إلا (يوم يقوم الأشهاد) لرب العباد/ التغابن.. بحق، فــ...
أعمل لدارٍ غداً.. رضوان خازنها
الجار أحمد والرحمن ناشيها