د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قبل التعريف بالسينتينليز، يجدر بنا الإشارة إلى أن هذا المقال يتحدث عن نموذج للتشدد الذي يتبناه بعض البشر، والذي عاش به الإنسان عبر مسيرة حياته المديدة، وذهبت ضحيته آلاف البشر الأبرياء.
والسينتينليز شعب فطري معزول عن العالم في إحدى الجزر الهندية بخليج البنغال، لا يرغب في الاختلاط مع الآخرين، سلاحه الرمح والسهم الذي ينطلق من القوس المصنوع مما هو متاح من مواد من جذوع الأشجار وأغصانها، ويستخدم السلاح للدفاع عن نفسه، وهو شعب عدائي لمن حاول الاقتراب منه، وما يكاد المرء يقترب منه حتى يوجه رماحه وسهامه إليه، كما أنه يستخدمه لصيد طرائده المتاحة في جزيرته المعزولة يعيش كما هو الحال في العصر الحجري، يأكل مما يلتقطه من فواكه تتساقط من الأشجار، وكذلك ما يتوافر من أعشاب مستساغة لديه، وما يصيده من الحيوانات البرية، وربما بيض النورس والسلاحف، والحقيقة أن هذه المعلومات تخمينة غير موثقة، فلا أحد يعلم الكثير عن الحياة هناك، لكن من المؤكد أنهم يصنعون قوارب صغيرة جداً لا تكاد تحمل سوى أقدام محدودة، لا يمكنها الإبحار إلا على الشاطئ الضحل، ليصيدوا بشكل جماعي ما يتاح من أسماك. ونحن نعلم أنهم يعيشون في أكواخ صغيرة متقابلة، ولا نعلم شيئاً عن لغتهم، إلاّ أنهم يتفاهمون بطريقة ما، وهم عراة غير أن بعضاً منهم يغطي وسطه ببعض أوراق الأشجار، ويتزينون بوضع عصائب على رؤوسهم، وبعض الرجال يلبسون أسورة مصنوعة مما هو متاح من أخشاب وأوراق.
وهذا الشعب الفطري ليس طويل القامة، فالرجل يبلغ طوله مائة وستين سنتيمتراً في المتوسط، بينما المرأة تبلغ في المتوسط ثلاثة وخمسين سنتيمتراً، سمر البشرة سماراً داكناً، ولديهم عضلات قوية بارزة، حفاة الأقدام، حاسري الرؤوس، ينامون على الأرض، سريعون عند الركض، أقوياء يستطيعون حمل أوزان ثقيلة، على ظهورهم أو رؤوسهم، وشعرهم أكرد غير طويل، لا يعرفون السمنة سواء النساء أو الرجال أو الأطفال، فقد حماهم الله -عز وجل- من هذا الداء الذي نعيشه بمحض إرادتنا، ونحن ندعي التقدم والحضارة.
هؤلاء الأفراد المحدودون القاطنون في هذه الجزيرة، يبدو أنهم سعداء يحبون الرقص، ولا أحد يعلم كيف يوارون جثمان موتاهم، وليس لهم رئيس معين إنما يتعاونون في كل شيء، والطبيعة جميعها ملك مشاع لهم، ولا يتقاتلون فيما يبدو، لأنه ليس هناك حاجة لذلك، فلا أحد ينشد الرئاسة لأنها غير موجودة، ولا تنافس في الرزق، فكله متاح لهم، ولا يتصارعون لأجل المذاهب، فلا مذاهب هناك، ولا أفكار متباينة، فهمهم منصب على أن يعيشوا في رقص وسعادة، يعرفون إشعال النار، وربما استخدامها، وقد استطاعوا التعرف على بعض قطع الحديد المتناثرة من السفن العالمية في البحار، والتي حملتها أمواج إلى شواطئهم واستخدموها في رماحهم.
في أحد الأيام من عام 1776 ميلادية، كان هناك سفينة علمية بالقرب من هذه الجزيرة، فرأى من فيها وميض نار داخل الجزيرة، وسمعوا أصوات غناء، لكنهم كانوا في مهمة علمية لدراسة الحياة وعلومها، ولم يكونوا مستعدين لترك مهمتهم للتعرف على من بداخل الجزيرة، ولكن السينتينليز الذين في داخل الجزيرة، تركوهم لمدة ثلاثة أيام، ثم بدأوا بإطلاق سهامهم ورماحهم نحوهم، وكادوا أن يهلكوا لولا أن سفينة حربية تابعة للجيش الملكي البريطاني سارعت في إنقاذهم. وفي عام 1967 ميلادية، زارت الجزيرة بعثة علمية، ودخلوا إلى الجزيرة، ولكنهم لم يجدوا هؤلاء القوم، لكن من خلالهم، عرفنا سكنهم وأدواتهم التي خلفوها في الأكواخ.
ما دعا إلى كتابة هذا المقال هو أن أحد الأشخاص التابعين لإحدى الدول الكبيرة، ذهب إلى هناك لتبشير بدينه، وهذا أمر غير منطقي وغريب، وغير مستساغ، فليس من المعقول أن يفكر إنسان في مثل هذا العدد الذي لا يتجاوز مائة شخص، وكانت نهايته الوفاة، حيث تم قتله من قبل سكان الجزيرة، لكن لا نعلم كم توفي منه نتيجة هذا العمل الذي قام به هذا الإنسان، لأن شعب السينتينليز شعب فطري، ضعيف المناعة ضد الأمراض التي اعتدنا عليها، وقامت أجسامنا عبر آلاف السنين على بناء مقاومة كافية ضدها، ويكفي فيروس إنفلونزا وحده أن يقضي على ثلثي السكان طبقاً لدراسات وأحداث سابقة، فقد توفي ثلثي سكان الهنود الحمر بسبب الفيروسات التي نقلها الأوروبيون معهم إلى هناك، وحدث ذلك أيضاً في أستراليا ونيوزيلندا وغيرهما من المناطق التي كان يسكنها بشر معزول عن العالم الآخر.
لا نعلم ماذا حدث لهؤلاء الأبرياء من سكان الجزيرة التي سكنوها قبل خمسة وخمسين ألف سنة بعد أن بدأ الإنسان العاقل يترك الشمال الشرقي الأفريقي لينتشر في أنحاء الكرة الأرضية، لكن إن كان قد تم ما تم فقد حرم علماء الإنثروبولوجيا، والإيكولوجيا من دراسة الإنسان الفطري المعزول لمعرفة تطور الجينات والثقافة وغيرها.
أينما وجد التشدد ستكون العواقب الوخيمة، والآثار السيئة، والنتائج المحزنة، والآلام البشرية، وقد عاشها العالم منذ آلاف السنين، ولا بد من تضافر الجهود لنبذه وتوسعة آفاق الأفكار دون الإخلال بالمبادئ الإيمانية، والقيم الإنسانية.