محمد آل الشيخ
المملكة هي الدولة العربية الوحيدة في العصر الحديث التي وحَّدها أهلها بدمائهم، وعرفت التوحيد ولم تعرف الاستقلال من الاستعمار لأنها لم تكن محتلة قط. ومن يقرأ تاريخها يجد أنها منذ أن وحَّدها المؤسس الملك عبدالعزيز وحتى عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وهي تواجه أعداء ومناوئين، كانوا يتربصون بها، وينسجون للإطاحة بها وتفكيكها بالمؤامرات لكنها استطاعت بجدارة أن تبقى ويسقطون. سر بقائها الذي قد يخفى على مناوئيها يكمن في عقدها السياسي بين حكامها ومن يحكمونهم، فالعقد هذا هو السبب الأول الذي جعلها في طورها الأول تسقط بفعل تدخل أجنبي، ثم لم تلبث إلا سنوات لا تتعدى أصابع اليدين حتى قامت ثانية، ثم سقطت، وبفعل هذا العقد الذي كان ضارباً في بيئتها ومتجذِّر في ذهنية أبنائها عادت وقامت وما زالت مستمرة حتى اليوم. هذه الحقيقة لا يدركها أولئك المنشقون السعوديون، الذين يسمون أنفسهم بالمعارضين ولا من يموّلونهم. الملك المؤسس لو كانت البنية التحتية التي شيَّد عليها مملكته بنية هشة وليست صلبة لعصفت بها عواصف كثيرة وأنهتها، لكنها كانت ذات جذور ضاربة في أعماق الأرض وأذهان من يعيشون عليها، وما زالت هذه الروابط قوية متينة، تستعصي على من أرادها بسوء. فالسعودي يرتبط بدولته بوشائج قوية، أشبه ما تكون بوشائج الفرد العربي بقبيلته، فهي جزء من هويته الوجودية، التي لا يمكن أن يتصور أن يكون له وجود بدونها؛ لهذا فهو لا يدافع عنها وعن وجودها لأسباب مصلحية وإنما لأسباب وجودية، والسعودي يعتبر أن انتماءه لقادة بلاده هو امتداد لانتمائه لبلاده نفسها، وهذا ما يفسِّر ردة الفعل الغاضبة وأحياناً الشرسة على كل من مس سمعة بلاده أو مس سمعة حكامها، فتراهم يشعرون أن التراخي في الذود عن البلد وعن الحاكم هو ضرب من ضروب الخيانة، التي يرفضها إباؤه وتمجّها قيمه وتقاليده الموروثة، التي تعلَّمها من آبائه وأجداده، وشربها من ثدي أمه. وأقرب ما ينطبق على انتماء السعودي بيت الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وأن ترشد غزية أرشد
فهو يتبع قبيلته حتى في غيِّها ورشدها. والقبائل العربية إذا انشق أحد أفرادها عنها أو تمرد أو عارض قيادتها، تبرؤوا منه، ولفظوه، واعتبروه (صعلوكاً)؛ والصعلوك عند العرب هو الرجل الذي تبرأ منه أهله أو قبيلته، وهو لذلك الضعيف الفقير المتسكع في البراري والقفار. ويقابله في الوقت الحاضر المنشق أو المعارض، من هنا يستعيب أهل الجزيرة المنشق، ولا يولونه أي اهتمام ناهيك عن الاحترام. لذلك لم تعرف مصطلحات الدولة عند المسلمين مصطلح (معارض) لكنها عرفت المنشق، وجاء في صحيح مسلم (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)؛ الأمر الذي جعل الفقه السلطاني في الإسلام يسوغ قتل من شق عصا المسلمين، أي من يعارض إمامهم.
لهذه الأسباب والمسوغات الضاربة في ثقافة عرب الجزيرة، حتى بعد أن جاء الإسلام، جعل المعارضة السياسية، والتمرّد على الإمام، ضرب من ضروب الأمور المحرَّمة. وهذا البعد التراثي الموروث أدى إلى أن كل الحركات المعارضة لا تجد من يستسيغها، أو ربما لأنهم اعتبروها (ممارسات) سياسية مستوردة، وليست نابعة من التراث.
الأمر الآخر، والذي جعل مثل هذه الحركات المعارضة تبوء بالفشل، الرخاء الاقتصادي. فالشرط الأهم الذي يدفع الناس إلى الثورة والخروج إلى الشارع هو في الغالب الأسباب الاقتصادية. وغني عن القول إن المملكة هي في المرتبة السابعة عشرة من حيث قوة ومتانة الاقتصاد بين دول العالم. ومعدلات النمو في هذا الاقتصاد واعدة، ولا يعترضها معوقات أو عقبات، وهذا ما يجعل احتمال تأثرها بالشكل الذي يعيق نموها، أمراً مستبعد.
من هنا يمكن القول إن السعوديين الذي يسمون أنفسهم معارضين في لندن، أو أولئك الشباب المغرَّر بهم في كندا، محكوم على حركاتهم المعارضة بالفشل الذريع سلفاً، فليدعوا عنهم التفكير الرغبوي الذي ساق من كانوا قبلهم إلى الإفلاس والخيبة، ورحم الله من عرف قدر نفسه، وعرف كذلك عظمة بلاده وحجمها وتاريخها وقيم ومبادئ وموروثات أهلها.
إلى اللقاء