المتتبع للوثائق الوقفية والوصايا القديمة في إقليم نجد على وجه الخصوص يقف على أن مضامين نصوص الوقفيات ومصارف الأسبال تعكس صورة مشرقة للحياة الاجتماعية التي عاشها الآباء والأجداد في مرحلة تدوين وثائق أوقافهم ووصاياهم وسنتناول وثيقة وقفية سُطّرت قبل (125) عاماً وتحديداً عام 1317هـ تعود لجدي هدوب بن علي بن هديب بن محمد بن مهيدب -رحمه الله- الذي حدّد مصارف ثلث السبل الذي أوقفه والمعروف بـ(البديع) في بلدة مقبلة سدير على أن تكون في: أولاً: مُدّ دهن لسراج مقبلة، ثانياً: عشر وزن بين إمام جامع مسجد الجنوبية ومعلم القرآن فيها، ثالثاً: خمس أوزان لصوام الجنوبية، رابعاً: ضحية دوام لهدوب ووالديه في كل عام، خامساً: باقي الثلث في ثلاث حجج دوام له ولوالدته ولوالده.
فالواقف رحمه الله راعى التنويع في مصارف الوقف بما يلبي الاحتياج القائم في تلكم الحقبة الزمنية التي عاشها فشمل وقفه مع بساطته في المساهمة في الإنارة للبلدة بالسراج الذي كان يستخدم في ذلك الحين ويستمد طاقته من الزيت الذي يشعله ويكون سبباً في إعانة المصلين وأهل البلدة على الخروج للصلاة وقت العتمة، كما شمل مصرف الوقف العناية بإمام جامع الجنوبية (البلدة المجاورة لمقبلة سدير) والذي كان متفرغاً للإمامة والخطابة وخدمة الأهالي في قراءة وثائقهم وكتابة وصاياهم وأسبالهم وتوثيق المبايعات بينهم، وكذا معلم القرآن الكريم الذي كان محتسباً في البلدة للتعليم والتدريس وتحفيظ القرآن الكريم للأبناء والأهالي في بلدة جنوبية سدير والبلدان المجاور لها، وشملت الوقفية المحتاجين من صوّام بلدة الجنوبية الذين لا يجدون قوتهم في ذلك الحين ترسيخاً لمبدأ التكافل الاجتماعي بين الأهالي الذين كان الموسر منهم يتلمس احتياج أهل بلدته ويسهم في تنفيس كُربهم بما يستطيعه وتجود به نفسه وخصوصاً في مواسم البر والإحسان، ولكون الأضحية من أعظم العبادات التي يتقرب بها المسلم لله تعالى في يوم الأضحى امتثالاً لقوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، ولما رواه الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: (ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله، عز وجل، من هراقة الدم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم يقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفسًا) نجد أنه لا تكاد تخلو الوصايا والأسبال في منطقة نجد على وجه الخصوص من اشتمالها على مصرالأضحية عن الواقف ووالديه، وفي هذه الوقفية خصص الواقف -رحمه الله- من المصرف أضحية له ولوالديه في كل عام، وباقي مصرف الوقف في تأدية حجة عنه ووالديه على الدوام إدراكاً منه لعظم أجر وثواب تتابع تأدية فريضة الحج على الدوام لقوله عليه الصلاة والسلام حينا سُئل: أيّ العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله».
قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله».
قيل: «ثم ماذا؟» قال: «حج مبرور». رواه البخاري ويتجلى لنا من خلال استعراض وثيقة وقف الجد «هدوب بن علي» -رحمه الله- ومصارفها مدى الاهتمام والعناية الفائقة من الواقف بتنويع مصارف وقفه لتشمل مجالات البر والإحسان متعدية النفع للغير، وتعظيمه لحق الوالدين والاحسان لهما بعد وفاتهما، والحرص على ما هو أعظم ثواباً للواقف الذي نسأل الله أن يبارك في وقفه ويعين ذريته على بره ورعاية وتطوير وقفه ومواصلة مسيرته جمعنا الله به ووالدينا في جنات النعيم.
** **
أ. د. خالد بن هدوب المهيدب - رئيس لجنة الأوقاف بالغرفة التجارية بالمجمعة