محمد آل الشيخ
إيران كما ذكرت ذلك مراراً دولة كهنوتية، جاءت من القرون الوسطى لتستقر في القرن العشرين والواحد والعشرين، وهي بنمطها هذا لا تمت للعصر الحالي، ولا لأشكال دوله بأي صلة؛ لذلك فهي دولة لا يمكن أن تستمر، وفناؤها حتمي، لأن العالم، فضلاً عن أغلبية سكانه، يرفضونها ويستصعبون التعامل معها. والسؤال الذي يطرحه الكثيرون: كيف ستكون نهايتها، ومتى ستبدأ هذه النهاية؟ سأحاول هنا أن أكون موضوعياً محايداً في قراءة الظاهرة الإيرانية، متوخياً أن أسوق المبررات المنطقية والأسباب الموضوعية لكل ما أستعرضه وما أستنتجه.
بدءاً لا بد من الاعتراف أن ثورة الخميني كانت ثورة شعبية حقيقية وكذلك سلمية نسبيًا في بداياتها، لكنها ما لبثت أن اتجهت شيئاً فشيئاً إلى العنف والدموية وتصفية الأضداد من العناصر الشاهنشاهية أولاً ثم توسعت إلى تصفية المتحالفين معها من غير المتأسلمين، حتى أنهت من لم يكن إسلامويًا، إما بالتصفية الجسدية أو بالتهجير، فأطبق الملالي على زمام السلطة إطباقاً كاملاً، وفي الوقت نفسه حيدت الجيش، وقامت بإنشاء الحرس الثوري لحماية الثورة، وكانت أغلب عناصره من الإسلامويين المؤدلجين من ذوي النزعة العنفية المتطرفة؛ أما الجيش الإيراني النظامي فقد زجت به متعمدة في الحرب مع العراق، الأمر الذي مكن الحرس الثوري الوليد خلال سنوات الحرب من أن يتجذر وتكتمل قوته وانتشارة في الداخل الإيراني، بحيث يكون قوة ضاربة موالية للملالي في مواجهة جنرالات الجيش أولاً، وفي مواجهة أي انتفاضات داخلية ضد نظام الملالي ثانياً، ثم تحول الحرس الثوري إلى مؤسسة عسكرية واقتصادية ضخمة قائمة بذاتها، ومستقلة في مواردها وفي مصروفاتها عن القوات المسلحة التقليدية الحكومية، وتابعة تبعية مباشرة وحصرية للولي الفقيه. بهذه الطريقة أصبح الحرس الثوري هو أداة القمع والحماية الرئيسية للنظام، والذي يحمي الثورة من مناوئيها في الداخل، ولا يتلقى الأوامر إلا فقط من المرشد. وما من شك أن للخامنئي الذي خلف خميني دور محوري في تقوية الحرس بشكل جعل أي تمرد شعبي ضد حكم الملالي يواجهه جنرالات الحرس بقوة شرسة لا ترحم، حتى لو اضطرت لكبح هذه التمردات أو الانتفاضات إلى قتل الآلاف. لكن جنرالات الحرس الثوري مع الزمن قد تغولوا في نفوذهم في الداخل الإيراني، وتضخمت مشاريعهم الاستثمارية، وأصبحوا لا يعيرون أي اهتمام إلا لعلي خامنئي نفسه بصفته المرشد؛ والسؤال الذي يطرحه السياق هنا: ماذا سيكون وضع جمهورية الملالي فيما لومات خامنئي؟
يجمع كثير من المراقبين والمحللين أن مؤسسة الحرس الثوري هي أقوى مؤسسة في الداخل الإيراني على الإطلاق، لأن لديهم السلاح، وبالتالي فهم سيشاركون حتماً في من سيكون خليفة خامنئي بعد موته، الأمر الذي يجعلهم يمارسون نوعاً من الوصاية على من يختارونه، ويكون لهم دور رئيسي في توجيه قراراته، وهذا سيضعف -بلا شك- من سيأتي بعده، خصوصًا أن المرشح لخلافة خامنئي وهو آية الله إبراهيم رئيسي، لا يُعد مرجعاً فقهياً؛ كل هذه الأسباب والمبررات تجعل احتمال أن تتجه إيران بعد خامنئي إلى الحكم العسكري، أو الميليشاوي، احتمال وارد وبقوة. هنا يتوقع كثير من الخبراء أن هذا التحول سيدق أول مسمار في نعش الدولة الإسلامية، فلن يقبل الإيرانيون بأي حال من الأحوال حكم العسكر، وتهميش رجال الدين؛ ومن المتوقع أن تحدث انشقاقات سواء في داخل الحرس الثوري نفسه، أو بين الحرس ورجال الدين الشيعة الذين لن يفرطوا بسهولة في التحكم بالدولة، خصوصًا أن الدستور يعطي رجال الدين سلطات استثنائية من القوة والنفوذ ما يجعل من شبه المستحيل أن يذعنوا لتهميشهم. أضف إلى ذلك أن أغلبية الإيرانيين مكونون من قوميات وعرقيات بل ولغات شتى، ويجمعهم فقط انتماؤهم الطائفي. وغني عن القول إن الانتماءات الدينية والمذهبية لا ترضخ للحدود القومية، فهم يقبلون أن يحكمهم شيعي أياً كانت قوميته، أما إذا كان غير رجل الدين فهنا يقف عامل القومية بقوة وتثور النزعة القومية، الأمر الذي يجعل تولي جنرالات ميليشيا الحرس الثوري زمام السلطة أمراً مرفوضاً، ومدعاة للتطاحن و للتفكك والتشرذم وطغيان الانتماء القومي على الانتماء الطائفي.
ما تقدم يجعل موت خامنئي منعطفًا مفصليًا في غاية الأهمية، فإذا استطاع من يأتي خليفة له السيطرة على مقاليد الحكم وبالذات جنرالات الحرس الثوري فإن هذه الظاهرة يمكن أن تستمر سنوات، وإن أخفق فإن تجربة يوغسلافيا ستعود ولكنها في بلاد الملالي.
إلى اللقاء