عبد الرحمن بن محمد السدحان
* أستأذنك عزيزي القارئ بمرافقتي في جولات وجدانية سريعة عبر ضفاف العمر. في بعضها شهقةُ حُزنٍ، وفي البعض الآخر وقفةُ تأمّل، وفي البعض الثالث إشْراقةُ شمسٍ وابتسَامةُ حنان!
* لنْ أثقلَ عليك سيدي القارئ بذكرى تُشْجيكَ أو تسْتمطرُ منك دمعًا. فقد سَبقتُك إلى ذلك قبل سنين من عمري حتى جَفّ الدمع في مقلتي، والدليل على ذلك أنني لم أستطع البكاء يوم تُوفِّي كلّ من والديَّ رحمهما الله، رغم زفير الحُزنِ في قلبي وفي خاطري، وقد أقنعتُ نفْسي منذئذٍ أن الدَّمع ليسَ (خليلاً) للحُزْن ولا رفيقًا، وغيابُه تمرّدًا في مرحلة من مراحل العُمر لا يَعْني غيابَ سحابة الحزن في سماء الوجدان ولا شُحَّ قطْر الدَّمع، لكنه حالةٌ نفسية فريدة لا يملكُ المرءُ في حضُورها سوى الدعاء والصبر والتماس السلوى من ربٍّ كريم!
* * *
* حديث اليوم يُمهّد لأول رحلة لي على ظهر جمل من أبها إلى جازان لِحاقًا بسيّدي الوالد هناك. كان هذا الرحيل المرّ لطفل لم يدرك الصبا أو يدركه، جاء فِرارًا من شقاء الحياة وشمسها.
* * *
* اخترتُ أنْ أعيشَ في كنف جدي لأمي -رحمهما الله- في مزرعته ومنزله بقرية مجاورة لمدينة أبها. لم يكن لي بدّ من ذلك؛ لأنني لم أُرِد أن أعكّر أمنَ واستقرارَ سيدتي الوالدة - رحمها الله - في منزل الزوجية بمدينة أبها. حاولت بادئ الأمر أن ألتحقَ بالمدرسة الابتدائية في أبها، في رحلة يومية سيرًا على الأقدام من قرية جدي إلى المدرسة في أبها. ولكن قَسْوةَ مُعَلّم الفصْل وجَحيمَ سوطه جعلاني بعد حين أقرّرُ البقاءَ في منزل جدي راعيًا للغنم أو ساقيًا للزرع!
* * *
* وأتذكّر هنا موقفًا طريفًا قبل هَجْري للمدرسة، إذ فكرتُ في أسلوب (أتودّدُ) به إلى المدرس القاسي لعله يَرفع عني عصَاه ولسَانَه، فاقْتطعتُ عدَدًا من أغصان الرُّمان في مزرعة جدي، وعالجتُها بسكين بدائية تحضيرًا لاستخدامها، ثم اصطحبتها في صَباح اليوم التالي إلى المدرسة في أبها، وقدّمتها (إهداءً) للمدرّس القاسي، وكانت المفاجأة الفاجعة أنه استلّ من حزمة الإهداء سوطًا وأذاقني به لسعات كادت أن تفقدني صوابي، رغَم أن المشهد ذاته أثار موجةً من (الضحك) من لدن زملاء الفصل ازدراءً بي و(تشفيًا) مني لإهدائي حزمةً من الأسواط إلى (جلاد) الفصل، وهذا ما حدا بي إلى الإصرار على هجر المدرسة والعودة إلى حضن جدي راعيًا لغنمه حينًا، أو ساقيًا لزرعه!
* وللحديث صلة.