د.فوزية أبو خالد
في الأسبوعين الماضيين حظيتُ بالاطلاع على عدد من الأعمال الجديدة والعريقة للفن التشكيلي بالمملكة، وهي على التوالي: أعمال الفنانة التشكيلية فاطمة النمر لمعرضها المقام بالرياض بعنوان «ملامح نجدية»، أعمال الفنانة التشكيلية علياء سعد البازعي في محاضرتها بعنوان «بين المكتبة والمرسم»، وأعمال الفنانة التشكيلية منى النزهة بعنوان «إنعكاس المراحل».
وفي ضوء هذه الحضور التشكيلي المكثف للمرأة والريشة وللون عمومًا، (بما سأعود للوقوف في مقال مستقل لاحق بكل مطل من مطلاته)، أستطيع بموضوعية أن أسمي أيامي من مطلع شهر إبريل/ نيسان 2021م أيامًا تشكيلية.
فقد مررت خلال الأيام التشكيلية القريبة بحالة فنية أعادتني ممشوقة فتية يوم قصدتُ روما عن عمد وشغف بالفنون في أول رحلة علمية لي إلى أمريكا كطالبة جامعية وقضيت فيها وقتًا لا ينسى مع فنون البصر التشكيلية منحوتات ولوحات في هواء طلق ماطر وفي قاعات احترافية، وفي أروقة كلية الفنون الجميلة العتيدة، حيث فتنتُ هناك بأعمال فنية شاهقة لم أعرفها سابقًا إلا الشهير منها عبر القراءة، بل وقابلتُ عددًا من أعمدة الفنون الجميلة وعشاقها وكان منهم لحظي طالب سعودي في تلك الكلية هو الفنان التشكيلي بكر شيخون وزوجته الفنانة التشكلية صفية شيخون.
ولعل اللوم يطالني بقدر ما يطال نشوة التشكيل بمدينة الرياض نهاية شهر شعبان على هذا التداعي السردي الذي أقترفه في هذا المقال عفو الخاطر
إذا كنتُ لم أتخلَ عن شغفي بالفنون التشكيلية عند نهاية مروري بكلية الفنون الجميلة بروما وبعد أن حطت رحالي بأمريكا بمدينة بورتلاند بولاية أوريجن وانشغالي ببداية دراستي الجامعية لتعلقي الذاتي بالفن كامتداد طبيعي للشعر والكتابة، وللمصادفة الجميلة بصحبتي حال وصولي مع الفنانة التشكيلية منيرة الموصلي -رحمها الله- التي لم تألُ جهدًا في القيام بدور المرشد التشكيلي في حياتنا الطلابية وتثقيفي شخصيًا فنيًا وفتح بصري على مجاهل الفنون التشكيلية الأمريكية، ولتعرفي على الفنان التشكيلي كمال بُلاطة الذي كان علمًا تشكيليًا بشرق أمريكا، فإنني قد اضطررتُ بعد تخرجي وعودتي للوطن والاستقرار بمدينة الرياض إن لم يكن للإقلاع عن الشغف بالفنون التشكيلية فللتوقف الشبه التام عن التردد على قاعات الفنون التشكيلية. وقد كان سبب توقفي الشبه قسري عن ملاحقة أطياف اللون على اللوحات وجروح الصخر على المنحوتات سببًا بسيطًا مؤلمًا يعود لندرة وجود مثل هذه المعارض وقتها بالرياض إلا بشكل مواسمي نادر أصبح أشد تباعدًا مع النصف الثاني من عقد الثمانينات الميلادية. هذا دون أن أنسى الإشارة لذلك الاستثناء الباذخ الذي أبقى فجوة في جدار مآلات الشظف التشكيلي، وتمثل ذلك الاستثناء في وجود سابقة المعرض البحري الدائم المفتوح على شاطئ كورنيش مدينة جدة منذ نهاية السبعينات «بما يقارب أوربما يجاوز الخمسمائة عمل بين رسم ونحت لكبار الفنانين التجريدين والسرياليين العالميين، ومنهم سيزار، جوان ميرو، جين آرب، مور ولافونتين سواهم» (منذر المطيبع).
غير أن تلك المرحلة الضنينة تشكيليًا خاصة مع اتساع وحشة الحالة الأدبية والفنية والثقافية عمومًا مع نهاية عقد الثمانينات قد دفعتني لتجسير علاقتي بالفن السعودي المعني بالحديث هنا بتقوية صلتي البصرية عبر القراءة والمتابعة البعيدة والصدقات المسترقة أو المتخيلة مع الفنون التشكيلية وأصحابها، ومنها محليًا أعمال النحات علي الطخيص، محمد الرصيص، اعتدال عطيوي، عثمان الخزيم، فهد الربيق، القامة الفنية صفية بن زقر وأعمال الرائد التشكيلي عبدالحليم رضوي والذي كنتُ أعرف أعماله منذ طفولتي والتقيته مرة واحدة في حياتي وجهًا لوجه بما يشبه الحلم، وكذلك أعمال الرواد محمد السليم عبدالجبار اليحيى وضياء عزيز ضياء وشاديا عالم وفيصل السمرة والحجيلان حميدة السناني علي الرزيزاء، مع تلاحق بزوغ أسماء تشكيلية متعددة مشاري الفيصل عبدالله، حماس عبدالله إدريس، هدى العمر، صالح الحربي، نجلاء السليم، نايل الملا، شريفة السديري، بدرية الناصر، منال الرويشد، دنيا الصالح، يثرب الصدير. وأعتذر بشدة (للتقديم والتأخير في التسلسل الزمني لعمر التجارب الفنية وكذلك عدم ذكر أسماء أخرى تستحق الذكر، سامح الله النسيان، حيث أكتب سرديًا وليس بحثيًا. وإذا كان لا بد أن يثمن في سياق هذه السردية دور بعثات الدراسة الخارجية المبكر في إطلاق أول شرارات الفن التشكيلي الحديث بالمملكة، فإن افتتاح الفنان الرضوي معرضًا للفن التشكيلي بمدينة جدة بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة الإيطالية بالستينات الميلادية قد شكل أول قطوف هذا التوجه الوطني في النظر للفن التشكيلي كمجال معرفي وإبداعي غير هامشي بما شكله من خروج على مفهوم المعارض الفنية المدرسية المعتادة قبل ذلك التاريخ. أيضًا في هذا التداعي السردي نفسه لذاكرتي التشكيلية -إذا صح التعبير- لابد أيضًا من تثمين مجهود جمعية الثقافة والفنون في التأسيس لحركة الفن الحديث بالمجتمع السعودي بإشراف أ. محمد الشدي وبعضوية فنانين كبار في مجلس إدارتها في الحفاظ على شمعة التشكيل رغم الرياح المناوئة. وإن كانت الإشارة للدور المؤسسي الذي يبقى محدودًا على أهميته لا تقلل من ضرورة الإشارة لتلك الأعمال التشكيلية التي عاشت مد وجزر مراحل التاريخ الاجتماعي والثقافي بمجهودها الشخصي وببصيرتها وصبرها الفني بروح إبداعية فردية ومتفردة.
ولعله في ظلال تلك الحالة بين العتمة والضوء، بين الماء والعطش، نشأت تلك العلاقة السرية السافرة بيني وبين مروحة من أطياف الفنون التشكيلية وأصحابها في تعالق عميق بين غي الشعر ودهشة التشكيل. وهي ربما السر في كتابتي للقصيدة الطويلة الوحيدة في ديواني ماء السراب بتلك الشحنة المائية المخلخلة لعمارة القطيعة التاريخية بين الفنون وبذلك الاسم المتحدي لالتباس العلاقة بين حقول الإبداع (هندسة الروح) وهو اسم مسروق من المسلة النحتية المزروعة عند مدخل معهد العالم العربي بباريس للفنانة المبدعة منى السعودي ومهدى مع القصيدة إليها. وربما ذلك التعالق بين غي الشعر ودهشة التشكيل هو الذي دفعني لتحويل لوحة (امرأة في الطريق) للفنان المبدع أحمد السبت من الحجم العادي إلى جدارية قوسية شاهقة بطول ما يقارب أربعة أمتار وعرض ثلاثة بزجاج معشق يظهر في ضوء الشمس وأنوار المساء إندلاع ألوانها الحراق. وهو أيضًا السر في العلاقة بين ريشة الفنان العريق عبدالرحمن السليمان وعملي طيارات الورق وبين الفنان الشاب وافي البخيت ولوحة الغلاف الحفرية في اللغة العربية لكتاب سيرة الأمهات.
ولعلي أُرحل للأسبوع القادم العلاقة بين توقي الشعري وبين تشكيل الفنان الخلاق زمان جاسم لأفرد لها جناحًا عندما أتناول وقفاتي مع اللوحات الشعرية لفاطمة النمر ومحاضرة الكتب واللون لعلياء البازعي والصحراء والنخل في معرض منى النزهة، فإلى المقال التالي الأسبوع القادم بمشيئة الله.