1 - ضعف البصر وفقده
ردَّ الأعشى على محبوبته التي رأته بعد طول غياب، فأقلقها أن يُقاد وقد أصبح ضريراً بعد أن كان بصيراً بقوله:
على أنها إذ رأتني أقا
د قالت بما قد أراه بصيرا
رأت رجلاً غائب الوافديْن
مضطرب الخلق أعشى ضريرا
ووصف ربيع السعدي الملَّقب بـ (المخبَّل) ما آل إليه بصره، إذ أصبح يرى الشخص شخصين حيث يقول:
إذا قال صحبي ياربيع ألا ترى
أرى الشخص كالشخصين وهو قريب
وقد شخص الطبيب الأديب منصور الجابري في كتابه (طبيب عبر الزمن) رؤية الشخص شخصين كما عند المخبل وغيره بأنها (ازدواجية الرؤية).
وفقد الشاعر العباسي صالح بن عبد القدوس بصره قبل موته فرثى عينيه، وعرض معاناته من فقد البصر، وكيف كانت عيناه سراج وجهه، وعزَّى نفسه بأن هذه حال الدنيا، فما من إلفين إلا سيأتي يوم يفرقهما فيقول:
عزاؤكِ أيَّها العين السكوبُ
ودمعكِ أنها نوبٌ تنوبُ
وكنتِ كريمتي وسراجَ وجهي
وكانت لي بكِ الدنيا تطيبُ
فأن أكُ قد ثكلتكِ في حياتي
وفارقني بكِ الألفُ الحبيبَ
فكل قرينة لا بـد يوماً
سيشعب إلفها عنها شعوب
أما الشاعر أبو يعقوب الخريمي الذي فقد بصره بعدما أسن، فقد آلمه ذلك، فامتلأ ديوانه بالقصائد التي تبين شدة معاناته. يقول إنه يستحق من أجل هذا العزاء، ثم يصف جزءا من معاناته حين يسمع ما لا يراه، وحين يمر به بعض معارفه يُسِرُّ له قائده بمن قدم، حتى يعرف الشريف من الوضيع، فيقابل كلا منهما بما يستحق:
للهِ عيني التي فُجعتُ بها
لو أن دهرا بـها يواتيني?
حق أخلائي أن يعودوني
وأن يعزّوا عني ويبكوني
أسمعُ ما لا أرى فأكره أن
أخطئَ والسمعُ غيرُ مأمونِ
أصغي إلى قائدي ليخبرني
إذا التقينا عمن يحييني
أريد أن أعدل السلام وأن
أفصل بين الشريف والدون
ومع فقده لعينيه لم يفقد نزوته ورغبته في التودد للنساء، فيقول لمن استكثرت منه أن يبادلها الغرام وهو أعمى إن أذنيه تعوضانه عن عينيه:
قالت لتهزأ بي غداة لقيتُها
يا للرجال لصبوة العميان
فأجبتها نفسي فداؤك إنما
أذني وعيني في الهوى سيان
وكان الشاعر الكويتي صقر الشبيب (ت 1963) كثير الحديث في شعره عن فقده لبصره، والإعلان عمَّا يتحمّله من أجل هذه العاهة التي ألمت به منذ صغره، وقد ذكر ذلك في قصيدة وجهها إلى الشيخ عبد الله السالم الصباح يعتذر له فيها عن عدم تمكنه من زيارته، ويؤكد له أن عماه هو السبب في ذلك، ويروي بالتفصيل - ساخراً - كيف تتعامل معه جدران الكويت وتسلمه من جدار لآخر، وكأن بينه وبينها ثأراً، ولا تنفعه يداه ولا عصاه، فيكمن مكانه حتى يمر به من يتفضل عليه فيعود به إلى داره. فيقول:
ولو أنني أسطيع وحدي ازدياره
لكنت إليه الدهر متصل السير
ولكنني ما سرت وحديَ مرَّةً
فعدتُ ولم تجرح جبيني يدُ الجُدْر
كأن لجدران الكويت جميعِها
عليَّ تراتٍ غير منسية الذكر
فيسلمني هذا لذاك بصفعة
وذاك إلى هذا بصفعٍ له مُرِّ
وليس لعكازي وإن طال من غنى
تجاه صنيع الجدر أو أنملي العشر
فأبقى شريد اللب حتى يتاح لي
كريم من الإسعاف ليس بمُزْورِّ
فيرجع بي للبيت أشكر فضله
وطورا أنال الجدر بالمنطق الهجر
أما أحمد الصافي النجفي فقد عاد إلى بغداد، وقد كف بصره، فلما وصلها أنشد قائلاً:
يا عودةً للدارِ ما أشقاها
أسمع بغداد ولا أراها
2 - ضعف السمع
شكَّل فقدان السمع لمحمد عبدالقادر فقيه في مقتبل عمره مشكلة ظل يتحدث عنها طويلاً، ويعرض لها في مناسبات كثيرة، ويبين ما تركته عليه من أثر، وما سببته له من غربة روحية ومكانية، ووصف معاناته بدقة من الصمت المطبق الذي يحيط به من كل جانب، فيحرمه الاستمتاع بالحياة، كالاستماع لحديث الرفاق، وضجيج الطبيعة، فيقول:
أطبق الصمت حواليَّ
كإطباق الهواء
كلما رمت مكاناً
أجد الصمت إزائي
موحشاً كالليل كالقب
ـر مليئا بالخواء
لهف نفسي لمناجا
ة وهمـس ونداء
لحديث الرفقة السا
جي ولغط الأصفياء
لعويل الريح بالقفـ
ـر وفي ليل الشتاء
لانبعاث الفجر وسْنا
نا لأصداء المساء
3 - وهن الذاكرة وخفوت الإبداع
ومن العلامات الذهنية للهرم ضعف الذاكرة، كما بين ذلك ابن الجيَّاب الغرناطي فقد وهنت ذاكرته وأصبح مضطراً للتدوين:
لله عصرُ الشبابِ عصرًا
فَتَّح للخير كُلَّ بابِ
حفظتُ ما شئتُ فيه حفظا
كنت أراه بلا ذهابِ
حتى إذا ما المشيبُ وافى
نَدَّ ولكنْ بلا إيابِ
لا تَعْتَنُوا بعدها بحفظٍ
وقَيِّدُوا العلْمَ بالكتابِ?
وخفت إبداع الأخطل الصغير فعبر عنه في قوله من قصيدة ألقاها بمناسبة تكريمه:
أيومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري
من ذا يغني على عودٍ بلا وترِ
ما للقوافي إذا جاذبتها نفرتْ
رعتْ شبابي وخانتْني على كبَري
وللشاعر محمد سراج خراز أبيات أرسلها للأديب عبدالعزيز الرفاعي وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين بعد أن افتقده الرفاعي يعتذر له فيها عن انقطاعه، ويبين أنه توقف عن قول الشعر بسبب ما لاقاه من قسوة العيش، وزاعما أن زمن الصبا قد تولى. يقول:
لا تلمني إذا صدفت عن الشعر
على غير ما تـود وتعهدْ
قسوة العيش صيرتني إلى اليأ
س فنايي ملقى وفكري مجهد
ذكريات مررن كالحلم الوا
دع راعته صحوة فتبـددْ
حسبها أنها صبانا الذي ضا
ع مع الأمس والشباب الذي ند
ورد عليه الرفاعي مرحبا بعودته للشعر، ومبينا له أن الشِّعر لا يتولى كما الشباب، وأن شباب الشاعر متجدد، ويستفيد من اسم (سراج) ليوري به:
عدتَ للشعر إن عودك أحمدْ
هللي يا رياض فواحـة الندَّ
قال: إن الشباب ولى وإن
الشعر صنو الشباب لا يتفرد
ذاك ظن، والظن غير اليقين الحق
فاتركه فهو كالشك أسود
إنما الشاعر المُفٍنُّ شباب
دائم لا يشيخ بل يتجدد
وكعهدي (السراج) شعلة نور
فليكن ضوؤه كما كان كالعهد
** **
- سعد عبدالله الغريبي