لاحظ أن الأرنب الأبيض آخذ بالتضخم.
كان «اديري»، قبل شهر، قد ذهب إلى سوق القرية لشراء بعض مستلزمات البيت، فشد انتباهه رجل، لم يره من قبل، يجلس وقد وضع أمامه قفصاً خشبياً بداخله أرنب أبيض، وينادي:
- من أراد ألا يموت فليشتر هذا الأرنب.
تقدم «اديري» نحو الرجل الذي بدا من شكله وصوته وندائه على بضاعته أنه غريب الأطوار.
- أرنب يمنحكم الحياة بعشرة دراهم فقط!
قال «اديري» لنفسه:
«عموماً هي طريقة مشوقة لعرض بضاعة.. وأنا أحتاج أرنباً قوياً مثل هذا لحظيرتي».
قال للبائع - ألا ترى أنك تبالغ في سعر هذا الأرنب؟
- أنا لا أبيع لك الأرنب يا هذا.. أنا أبيع لك الحياة.. ألا تستحق الحياة أن تدفع من أجلها عشرة دراهم!؟
ضحك «اديري» وقال:
- لن أدفع ثمناً للحياة سوى سبعة دراهم.
- أعطني النقود.
الأرنب يتضخم بسرعة كبيرة، وخلال أسبوع واحد صار في حجم كلب صيد، وبدأ في قتل كل أرانب الحظيرة، وقتها أدرك أنه قد اقتنى بالفعل أرنباً يستحق السبعة دراهم، لكنه تساءل كيف لأرنب يقتل رفاقه أن يهب الحياة له؟!
ابتسم للحظة، فمجرد التفكير في ما قاله رجل غريب الأطوار كي يبيع بضاعته هو شيء من قبيل البلاهة التي تستحق ضحكاً ساخراً.
تطورت الأمور بعد بضعة أيام، فلقد صار الأرنب في حجم ثور، ليقدم على مهاجمة «اديري» نفسه، وكاد أن يقتله لولا أنه استطاع القفز إلى أغصان شجرة «زيزفون»، ليبيت ليلة كاملة بين أوراقها، وهو يلعن الرجل غريب الأطوار.
«هذا الأحمق يدعي أن أرنبه يهب الحياة!».
«لعنة الله على هذا الأحمق.. كاد يجعل نهايتي مجرد حكاية ساخرة يتناقلها أهل القرية.. أرنب يقتل اديري؟!».
«إنه مجرد أرنب وإن تضخم ليصير في حجم فيل».
في الصباح حمل بندقيته وقد قرر التخلص من هذا الشيء الذي كان منهمكاً في التهام زرع الحقل، اقترب منه بحذر، وصوب ماسورة بندقيته نحوه بدقة وأطلق أعيرته النارية لتصيب الهدف في قلبه.
نظر إليه الأرنب نظرة طويلة، لم يفهمها «اديري»، قبل أن يسقط مثل جبل من ثلج أبيض لونته زهور كثيفة حمراء.
قهقه «اديري» قبل أن يزعق وقد نفخ صدره اعتداداً:
- تريد أن تقتلني! هاه! «اديري» الذي لم تتمكن الذئاب من قتله لا يقتله أرنب.. ها هو لحمك سيكفيني وأهل بيتي شهوراً طويلة.. لكن أنا لحمي مر.. لحمي مر».
لم يقبل أحد من أهل «اديري» أن يأكل من لحم أرنب كان يأكل الأرانب والكلاب وحتى الضفادع، لكن «اديري»، وبشكل انتقامي، قرر أن يأكل كل هذا الأرنب بمفرده.
ربما انقضى عام أو عامين قبل أن ينتهي «اديري» من جبل اللحم هذا، وربما انقضت سنون قبل أن يلاحظ أهل القرية أن «اديري» لا تصيبه الأمراض مثلما تصيبهم، وأنه قد صار لا ينام لأسبوع كامل، وإذا نام فأسبع كامل، وأن كل من أصابه الهرم يموت بينما «اديري» لا يموت.
من لا يموت ستتزاحم الذكريات في رأسه طالما يعاشر الفانين، وستأتي لحظة لن تقوى ذاكرته على استيعاب المزيد، ثم تنفجر، روحه الخالدة تحتاج إلى مرافقة الخالدين، عليه أن يعيش في برية الضواري، وصحبة الجبال.
الجبال تراكمات من رمل وحصى، و»اديري» تراكمات من أيام متتالية.
وأي طعم لخلود جبال صم تحيا ميتة؟
وأراد «اديري» أن يموت، أن يتخلص من كتلة الطين التي تأسر روحه.
وفي سكون البرية تردد صدى مهيب خيل لـ»اديري» أنه قد سمعه من قبل، كان ينوح:
- «من يعيد إلي أرنبي وأعطيه سبعة آلاف درهم؟»
رفع «اديري» رأسه بعينين متسعتين بالدهشة في اتجاه قمم الجبال.
اشتد النواح:
- يا لأرنبي الأبيض.
كم ألف عام مرت على «اديري» وقد وقف في مكانه يستمع إلى نواح غريب الأطوار؟
كم ألف عام احتاجها «اديري» كي يتحول إلى شجرة تضرب بجذورها عميقاً في برية الضواري تراقب قمم الجبال؟
** **
- سلطان الحويطي