يُعلّمنا النقد الحضاري أن المنعطفات الحضاريّة والتحوّلات التاريخيّة أو السياسيّة، تُحمّل العقلَ أعباءً إضافيّة، وتطالب الوعي بتغيير إدراكاته للأشياء؛ لتقديم حلول للإشكاليّات المعقّدة؛ ومن ثمّ تُسهم هذه التحوّلات في صناعة وعي جديد بالمفاهيم القديمة، وإعادة تعيين لموقع الفكر العربي (الهامش) من المركز الغربي؛ وذلك عندما سعى إلى نفي المركز بهدف إعادة الاستحواذ وإعادة تحديد المواقع، فعمد إلى التوليف بين المتناقضات (التراث والحداثة) (الأصالة والمعاصرة) (الشرق والغرب)؛ وذلك في رهاناته التأسيسيّة لواقع فكري جديد. نذكر على سبيل المثال، ظهور النزعة القوميّة، والهوية الجمعيّة، والأجناس الأدبيّة الجديدة في الأدب العربي في مرحلة ما بعد الكولونياليّة، وأن هذه النزعات ظهرت في الوعي الإبداعي العربي في صورة علاقة جدليّة بين الهامش والمركز الغربي بعد انتهاء فترة الاحتلال؛ حيث تقوم هذه النزعات بممارسة القطيعة المعرفيّة مع نزعات أخرى كانت سائدة، مثل النزعة القبليّة، أو العرقيّة.. والحقيقة أن العقل الإبداعي العربي اندفع نحو أشكال التطوّر مبتدعًا أجناسًا أدبيّة جديدة، ومعتمدًا استراتيجيّات إبداعيّة تؤكّد حضور العقل الإبداعي العربي على نحو فاعل، عندما تغيّر وعيه بمفاهيم (الذّات) و(الآخر)، و(نحن) والـ (هم) وهذا الوعي، جعل الذّات العربية أكثر إدراكًا لقضايا الوجود، كما يمكننا اعتبار هذا الوعي إرهاصًا لمشروع فكري يمتلك القوّة في مواجهة المركز الغربي. كما أسس هذا الوعي لنشاط حواري أسهم في تطوّر الوعي بالآخر، الأمر الذي ساعد العقل العربي على قبول التعدّديّة؛ حيث يمكن للتحليل الحضاريّ للنصوص الإبداعية في مرحلة ما بعد الاستعمار أن يكشف عن صيغ متعالية جديدة للتعبير، تتحاشى الاندماج الأعمى مع الفكر الأحادي والإقصائي.
وفي ظلّ هذه الرؤى الجدليّة طرح العقل العربي على نفسه - في مطلع القرن الماضي- سؤالاً مهمًا: لماذا يتقدّم الغرب ويتخلف المسلمون؟ وأُعيد طرح هذا السؤال أكثر من مرّة عند كثير من المفكرين الإصلاحيين العرب، وهو سؤال يطعن في شرعيّة السائد والمألوف، ويدعو إلى مراجعة الذات، ويسعى إلى تفكيك لغة القوة والمقولات الجوفاء؛ ومن ثمّ تحرير المعرفة من أوهامها، ولم ينجح العرب في الإجابة عن هذا السؤال في السياقات السياسية، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة مثلما هو الحال في الفنون والآداب؛ لأن علاقة الهامش بالمركز تأسّست على التبعيّة، وليس على الجدل فلم ينجح العقل السياسي العربي مثلاً في إنتاج أنظمة فكريّة مستقلّة. أما في مجال الفنون والآداب، فنزعم أن العقل العربي نجح في الإجابة عن هذا السؤال، ويشهد على هذا النجاح، الإنتاج الأدبيّ العربي في هذه المرحلة. فالعقل الإبداعي العربي استطاع تعريف نفسه بقدرته على إنتاج رموزه الخاصة في الإبداع، بل وأصبح يُعاين في كثير من فنون الإبداع العربي قضايا إشكاليّة مثل: النزعة الإنسانيّة، والذات، والوجود، والآخر، والهويّة.. أصبح المتلقي العربي يلمس امتداد حواسه، ولاسيما القوميّة في نصوصه الإبداعيّة؛ إذ تُعيد لغة الخطاب إنتاج تشكيل العالم في صورة علامات، هي من صناعة الوعي الإبداعي. نجح العقل الإبداعي العربي في تحويل الطبيعة إلى ثقافة، والثقافة إلى نظام علاماتي متأصّل في الخطاب؛ وذلك بفضل إيمان العقل الإبداعي العربي بأهمية الانفتاح على ثقافات الآخر وآدابه. إن رؤى العقل الإبداعي العربي النافذة لاستكشافاته، تكشف - في الوقت نفسه- عن رؤاه الانعكاسيّة في مواجهته لإشكاليّاته في كل منعطف، أو مأزق إشكالي. «فهذا التطور الأدبيّ الكامل ما كان يمكن أن يحدث إلا بعد صراع طويل بين القديم والجديد تبدو فيه الغلبة للقديم في البداءة، ثم يتعادلان ثم تظهر الغلبة للجديد بعد أن يكون قد نما واشتد ساعده، واكتملت رجولته» (راجع حسين مروة، تراثنا كيف نعرفه ص220)
وفي ضوء هذا الحراك المعرفي الجدلي يمكننا طرح السؤال الآتي: هل ثمّة أثر لما بعد الكولونياليّة في تغيير المعهود؟
اختلف دارسو ما بعد الكولونياليّة في منطلقاتهم المنهجيّة وفي أدواتهم الفكريّة، ولغاتهم، ولكنهم توصلوا إلى الدلالة نفسها، دون الوعي بأنهم أسّسوا رؤاهم الفكريّة بناءً على ردود أفعالهم ضدّ خصومهم (الاستعمار) وبنوا معارفهم من إيديولوجياتهم الخاصة؛ لأن الملكيّات الإيديولوجيّة تتوحّد دائمًا ضدّ المستعمر؛ ومن ثمّ تشكيل جماعات هرمنيوطيقيّة تنتج تأويلات متشابهة رغم اختلاف مداخلها، وكذا تنتج جيوبًا معرفيّة تؤسّس لصراعات إيديولوجيّة مع الآخر.
وعلى هذا تتمثّل الوظيفة الحضاريّة للمفهوم في قدرته على استيعاب مختلف للوجود وتمثيله في صورة حضاريّة؛ حيث يعمل المفهوم بوصفه وسيطًا بين الوعي والعالم، مدركًا له وصانعًا له في الوقت نفسه. كما تكشف صيرورته عن قدرة الوعي على إعادة اكتشاف الوجود حسب خبرته الجماليّة، مما يُضفي طابعًا حضاريًّا على حركة المفهوم.
إن اكتشاف البُعد الحضاري لمفاهيم الخطاب، من شأنه إثارة أسئلة ذات طابع حضاري، يمكن طرحها أمام جميع الظواهر التي دخلت مجال الخطاب، وليس الهدف من الإجابة عن هذه الأسئلة، هو الوصول إلى قاعدة عامة يمكن الاقتداء بها في تحليل ظواهر الخطاب فحسب، وإنما أيضًا الكشف عن الأسباب والدوافع التي أسهمت في حضور هذه الظواهر ودورها في التعبير عن قضايا تنويريّة أو رجعية في الخطاب.
وبناءً على تلك المؤشّرات المعرفيّة يمكننا النظر في مفهوم ما بعد الكولونياليّة بوصفه صياغة لغويّة لمعرفة ما بعد حداثيّة، تنطوي على رِهانات جدليّة بين الهامش والمركز؛ حيث تسمح هذه الجدليّة للهامش بمواجهة الادّعاءات الكبرى للمركز والتي تُضفي المشروعيّة على ممارساته؛ ومن ثمّ يتناول النقد الحضاري هذا المفهوم، في الخطاب الإبداعي العربي، بوصفه رِهانًا معرفيًّا لاختبار قدرة الوعي الإبداعي العربي على مواجهة تحدّيات المركز الغربي المعرفيّة؛ حيث أنتجت أفكارًا اخترقت جميع مجالات العلوم بلا استثناء، وغيّرت كثيرًا من الحقائق المعهودة في المجال المعرفي. فأصبحت المعرفة في جميع المجالات تُقاس على ما أنتجه العقل الغربي من معارف؛ ومن ثمّ حصر فكر الهامش في دوائر العقل القياسي فوقع في أسر التبعيّة، ما أدّى إلى تراجع الثقة في الأفكار المحليّة فانقاد العقل إلى أفكار توجّه سلوكياته نحو غايات محدّدة.
** **
أ.د. عبد الفتاح يوسف - جامعة البحرين
bahithoun@gmail.com