رمضان جريدي العنزي
تشغل زاوية صغيرة في الممشى المحاذي للحي، هادئة وعندها صبر طويل، ولسانها يلهج بشكر الله وحمده كلما سألها أحدهم عن حالها، منذ زمن طويل وهي تبيع الشاي والقهوة وبعض الأكلات الخفيفة في ذلك المكان، بعد أن فقدت من يعيلها على مهاوي الحاجة، أم لأربع بنات صغيرات، امرأة ارتدت الضيم والحسرة وتوشحت بالحزن، لم تتعلم كثيراً، لكنها تملك قدراً من العلم الذي يؤهلها لجميل الرد والمخاطبة، هي الحياة بكل معاناتها وقسوتها وفظاظتها علمتها الدروس تلو الدروس، والعبر تلو العبر، مارست المشقة والركض والتعب، لم تهنأ يوماً كما تهنأ النساء الأخريات، لم تعرف الفراش الوثير، واللحاف الدثير، والسرير الأنيق، والآنية التي تشبه الفضة، تنام على الحصير، وتفيق من على الحصير، تشرب وتأكل في مواعينها الشحيحة ما تيسر لها من فضل الله الكريم، تعمل في النهار، وفي آخر المساء تعود إلى بيتها عبر المسارات الضيقة، والبيوت المتلاحمة التي تشبه بعضها البعض، منذ أن ترملت صارت مثل العصفور الأحدب الذي يحمل الهم الكبير على ظهره المكسور، أو مثل غيمة كثيفة تتكسر على الصحراء الذابلة، همها أن تجد بقعة مضيئة لبناتها الصغيرات، وحيز حنان لهن يشبه شمس الشتاء، امتطت صهوة التعب الجامح من غير خوف أو تردد، من أجل زهراتها الأربع، اللاتي يحلمن بمخدة الريش، ومخدع الحرير، وبجمال الطبيعة والحياة، وكوز التوت، وحبات العنب، البنات الصغيرات حتماً سيكبرن، وسيصبحن نساء، سيبحثن عن أشجار دافئة، وحدائق ضوء، لهذا لا يصبح عندها كل شيء على ما يرام، لا تنام طويلاً، ولا تعرف وسن الظهيرة، وتركض من أول النهار لآخره، امرأة من نسل رجل، تشبه الظل والحجر، تبصر ما لا تبصره أي امرأة أخرى، شدت مئزرها، وتوشت بالصبر، كل يوم تتفحص دمها إن كان يخفق في الشرايين، تتعب لكي تحول عمرها لمحطات راحة لبناتها الصغيرات، امرأة مكسرة، لكنها جامحة، لا تخشى المسامير الغليظة، ولا الزجاج المهشم، ولا تخاف الألم، همها عصفوراتها الأربع، كل لحظة تمر عليهن كريح الصبا، وتقع عليهم كالندى، وتمد إليهن ظلها كأنه الملح والسكر، تريد أن تكن لهن ورد وضوء وعطر، هن الحياة عندها، وهن الممات، ليعونهن تبكي ويحلو البكاء، ولعيونهن تغفو كذكرى وراء الدجى، تحلم لهن ولو بعد حين، تحلم لهن بالقمح والفل والأغنيات، تعيش فيهن ولهن رغم جفاف الحياة، تريد أن تصبح لهن حقل نجوم، وحقل خميلة، ترفرف حولهن وتحنو عليهن كالقبرة، لعلها بعينيها المتعبتين تضيء لهن الطريق، لعلها، للحياة سؤالان في قلبها: عن مرايا العذاب المهشمة، وعن النوارس المهاجرة التي هدها شغب البحر، رجع روحها امتداد لرجع صوت بناتها، دمعها فاض من وجع السواد، كل النساء يستظلن الشجر، ويقطفن الأقحوان، ويشمن الياسمين، إلا هي قصصها تحرقها عند المنام، وعندما تغفو على مخدع همها يجيئها سراب من العذاب، في قلبها وهو يدفق الدم، قصص تشبه الجمر، امرأة ما مشت على الرخام، ولا عرفت زهور الضباب، ولا ذاقت طعم اللوز، ولا غنت حين يجيء المطر، هي مثل سمسة عصرها الرحى، أو حجر يؤرخ لابتداء السديم.