عبدالرحمن الحبيب
أمم سادت ثم بادت.. إمبراطوريات صعدت ثم سقطت، اتحدت ثم تشرذمت.. كيف تنهض الأمم وكيف تهبط؟ ما هي مقومات القوى الصاعدة؟ ما هي أسباب السقوط؟ لماذا تصبح بعض البلدان قوى صاعدة وبعضها الآخر غير صاعدة رغم تشابه القوة العسكرية والاقتصادية بينهما؟ هذه الأسئلة شكلت محور اهتمام رجال الدولة والمفكرين والعلماء منذ القدم، كما أن الصعود السريع للصين كقوة عظمى مقابل تقلص نسبي للقوة الأمريكية أدى إلى زيادة الاهتمام بشرح دورة حياة القوى العظمى. تجيب على هذه الأسئلة الدكتورة مانجاري شاترجي ميللر في كتابها الجديد والمثير للجدل، «لماذا تصعد الأمم: السرديات والطريق إلى القوة العظمى» (Why Nations Rise: Narratives and the Path to Great Power).. والمؤلفة هي أستاذ مشارك في العلاقات الدولية بجامعة بوسطن، وباحثة في جامعة أكسفورد.
حسب الكتاب، يبدو أن نهوض بعض الدول كقوى عظمى على مستوى العالم ليس فقط مصدره ضخامة قوتها المادية (العسكرية والاقتصادية)، بل أيضاً المصادر الفكرية لتحفيز القوة من أجل صعودها، أو ما أطلقت عليه المؤلفة «قوة السرد»؛ فهذه الدول طورت سرديات أو روايات معينة حول كيفية أن تصبح قوة عظيمة بأسلوب القوى العظمى.. بمعنى أن بعض الدول تعيد طريقة وصفها لنفسها وصياغة صورتها بشكل نشط عندما تزداد قوتها الاقتصادية والعسكرية، وتعيد طريقة تفكيرها ووعيها في دورها بالعالم للتحول من دولة صاعدة إلى قوة عظمى. يتم ذلك من خلال صياغة تعبيرات مقصودة وحجج أخلاقية واحتضان رؤية يمكنها دعم وتبرير وإضفاء الشرعية على انطلاقة صعودها.
الكتاب يمثل دراسة لدور السرديات من خلال فحص نماذج لحالات تاريخية (الولايات المتحدة وهولندا واليابان (فترة الإمبرطور ميجي 1876- 1912) واليابان فترة الحرب الباردة، ثم في حالتين معاصرتين في وقتنا الراهن هما الصين والهند مقارناً بين السردية الصينية الطموحة والسردية الهندية المتحفظة.. مستخدماً الوقائع التاريخية والمعاصرة التي تظهر السرديات الفكرية الكامنة وراء فشل أو نجاح هذه الدول في تحقيق مكانة القوة العظمى. ترى المؤلفة أن السرديات مهمة للدولة مثل أهمية قدراتها المادية، فنجاح الدول في سرديتها للصعود كقوى عظمى هو ما يجعل بعض الدول التي لديها الإمكانات المادية المطلوبة تتحول إلى قوى عظمى بينما لا تتمكن بعض الدول الأخرى من ذلك رغم حصولها على مثل هذه الإمكانات المادية.
تُقرّ المؤلفة أنه صحيح بأن جميع الدول التي أصبحت قوى عظمى لديها استراتيجيات كبيرة وأصول مادية ضخمة اعتمدت عليها، إلا أن لديها أيضًا سرديات حققت ثلاثة أهداف كبرى. أولها أن السرديات تسمح للدول بالتوفيق بين قدراتها المادية المتوسعة والقيود التي يفرضها النظام الدولي القائم. كما أن السرديات تساعد الدول على التعامل مع المفاهيم السائدة لوضع القوة العظمى، مثل الاستعمار أو الغزو أو أسلحة الدمار الشامل. كذلك تعطي السرديات مبررات للدول الصاعدة لمشاركتها المتزايدة في النظام العالمي للرأي العام في الداخل المحلي وفي الخارج الدولي.
من هنا فإن القوى الصاعدة النشطة تقبل القواعد السائدة للنظام الدولي لكي تصبح قوى عظمى؛ بينما البلدان التي لديها قوة عسكرية واقتصادية ولكن ليس لديها هذه السرديات لا تصعد بما يكفي لتصبح قوى عظمى، فهي تظل قوى مكتومة. يعرض الكتاب أنماط القوى الصاعدة النشطة والمكتومة ويقدم شرحاً لكيفية فهم القوى الصاعدة: النشطة في الصين، والمكتومة أو المتحفظة في الهند اليوم. ونظرًا لأن الصين أصبحت أو في طريقها لتصبح أكبر لاعب دولي في العالم، فهذه الدولة تقبل النظام الدولي الحالي وترى نفسها كقوة عظمي بينما لا تتبنى الهند هذه السردية.. فرغم اكتساب الهند قدرات اقتصادية أكبر منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد ظلت سرديتها خجولة ومتحفظة. توفر هذه المقارنة لسرديات الأمم عبر التاريخ سياقًا فريدًا للتناقض بين طموحات الصين كقوة عظمى مقابل التحفظ الهندي.
خلاصة الكتاب، هي أن توسع وضخامة القدرة المادية غير كافٍ لتحويل دولة صاعدة إلى قوة عظمى، وأن المصادر الفكرية (السرد) لها مهمة تحفيزية لا تقل أهمية عن القدرة المادية (العسكرية والاقتصادية). هذا الطرح يشكل تحدياً وإعادة تشكيل للفهم السائد والنظرية المهيمنة في العلاقات الدولية التي تتلخص بأن القوة الصاعدة أو القوة العظمى تعتمد على المصادر المادية وأن القوة المادية هي المحدد الرئيسي الحاسم لمكانة الدولة في النظام الدولي؛ فمثلاً - حسب النظرية السائدة - تمكن الاستعمار الأوروبي من تبرير احتلاله في القرن التاسع عشر من خلال مسوغات أو سرديات إلا أن ذلك يظل عاملاً ثانوياً أما العامل الحاسم فهو القدرات المادية وقوة البنية المؤسسية في الداخل للدولة الصاعدة.
لذا فإن هذا الكتاب الجديد تعرض لنقد شديد مثلما نال إشادة كبيرة، إلا أن ثمة اتفاقاً بأن الأفكار المطروحة فيه تضيء زوايا لنقاشات مستنيرة وحيوية حول العوامل الحاسمة في العلاقات الدولية، وحول كيفية نجاح أو فشل القوى العظمى في تحقيق طموحاتها. فهي محاولة استفزازية (بالمعنى الإيجابي) جادة لمواجهة النظرية السائدة في العلاقات الدولية، وفهم ديناميكيات النظام الدولي متعدد الأقطاب الذي يتشكل في عالم اليوم..