د. حسن بن فهد الهويمل
مواسم العطاء المتدفقة يبادرها الأذكياء من الناس للكسب: الحسي، والمعنوي، وتعويض ما فاتهم فيما سلف من التسويف.
والله الرحمن الرحيم الرؤوف بعباده، يتدارك الغافلين، بساعات، وأيام، وليال، وشهور يضاعف فيها الحسنات، ويحط بها الخطيئات.
العقلاء الذين فاتهم الركب المخب في دروب الكسب، يتحرون هذه المنح الزمانِيَّةِ، فيتسابقون في الخيرات، ويعوِّضون ما فات.
هذه اللفتات الكريمة نبهت الدول، والجماعات، والشركات بحيث وضعت مواسم كسب لعملائها، يعوض فيه الكسالى، والمسوفون ما فاتهم.
إنها تجارات، ومضاربات متفاوتة. تجارة كسب دنيوي، وتجارة كسب أخروي، وكلها مشروعة متى التزم المضارب بمقتضيات الشريعة.
فَعِزَّةُ النفس لا تتحقق مع العوز، والمال قوة، والمؤمن القوي خير مما سواه: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
فلا قدرة على الإحسان مع الفقر، وكل غني ميسور الحال عليه أن يحسن كما أحسن الله إليه.
إنها مبادرات ندب الحكيم إليها، لحفظ التوازن، وإتاحة الفرص.
رمضان موسم خير لكل الأمم، ولكل الأزمنة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ولا يمكن أن يمتد التكليف من قبل، ومن بعد بأي شعيرة، إلا إذا كانت مهمة، ونافعة: دنياً، وآخرة.
إن هناك أسراراً أدرك العلماء، والأطباء بعضَها، وفاتهم الكثير، هذه الأسرار جعلت الصوم علاجاً لكثير من الأمراض: الجسمية، والقلبية، وذلك شهر البركة.
الصوم يشمل نفعه الأجساد، والقلوب، وتتعدد فوائده. إن له خصائص، لم تكن في الشعائر الأخرى: كالصلاة، والزكاة، والحج.
شهر كامل يُقام ليله، ويصام نهاره، فيه ليلة خير من ألف شهر، هذه الخيرية تعدل أكثر من ثمانين عاماً، مليئة بالأجر.
إنه تعويض عن قصر أعمار الأمة الإسلامية، وفي الأثر لما قصرت أعمار أمة محمد عوضها الله بهذه الليلة المتلمسة في الوتر من العشر الأواخر.
ومن ثم أصبح لَيْلُ العشر الأواخر من رمضان، أفضل من ليالي العشر من ذي الحجة. وأصبحت أيام العشر منها أفضل من ليالي العشر من رمضان. توزيع متوازن يتيح للمسلم تدارك هذه الأيام، وتلك الليالي.
العلمانيون المتعصبون المستغربون يرون رمضان من المثبطات عن المضاربات التجارية، ويعدونه مؤثراً على الثروة القومية، حتى لقد أقدم أحد الهالكين، وهم أحياء على حمل الناس على الفطر محافظة على اقتصاديات الدولة، ومصالح الناس. وتلك من نزعات الشيطان، ونزغاته، أعاذنا الله من مضلات الفتن.
رمضان هدية السماء للأرض، وهي غيث يُطَهِّر القلوب، وينقي الضمائر، ويثبت الأقدام، ويحمل على وجوه الخير.
يحس الناس بعظمته، فيمسكون ألسنتهم عن قول السوء، ويبسطون أيديهم بالصدقات، ويركضون بأرجلهم إلى المساجد، وذوي الأرحام.
إنه كنز ثمين، وعطاء جزل، وخير يعم الأرجاء. ولهذا كان لله ومنه: (الصَّوُمُ لي وَأَنَا أَجْزِي به).
لقد حددت الأجور في سائر العبادات، وأطلقت في رمضان. لأنه كالصدقة برهان على الطاعة، ولا سيما أنه لا يدخله الرياء. فالصيام بين العبد وربه، لا تشوبه شائبة الرياء، ولأنه امتناع عن الشهوات المتاحة، وفي هذا قَمْعٌ للنفوس الأمارة بالسوء.
ولأنه مترع بكل جميل، اختصه الله لنفسه من بين فضائل الأعمال.
اللهم وقد بلغتنا إياه، فمكِّنا من تقديره حق قدره، وأعنا على صيامه، وقيامه، وتلاوة آي الذكر الحكيم آناء الليل، وأطراف النهار، وتقبله منا، وعظم لنا الأجر، واغفر لمن ماتوا موحدين، قبل بلوغه، ومن هم تحت الثرى يتمنون الرجوع للعمل الصالح، لا للكسب المادي.
لقد كان رمضان قاسياً على آبائنا، وأجدادنا المشتغلين بأيديهم، الذين لا يتوافرون على الكفاف، على الرغم من تواصل عنائهم من صلاة الفجر، إلى صلاة العشاء، ولا سيما إذا جاء في حمَّارة الصيف.
كانوا يصومون نهاره، ويقومون ليله، ويحسون بالتقصير، والتفريط. أما نحن فنعم الله علينا تتدفق من كل حَدَبٍ، وصوب، لا غُرْم فيه، طعام وافر، وأمن وارف، وتكييف للأجواء، وأكثرنا يسهر ليله في القيل، والقال، وينام نهاره في غرف مكيفة، لا يشهد جماعة المسلمين في بيوت الله، ولا يتلو ذكراً، ولا يتورع عن القول الآثم.
اللهم إنا نسألك العصمة، ودوام النعمة.