د.سالم الكتبي
لم ينتظر ملالي إيران كثيراً بعد الحديث عن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60 %، حتى أعلن علي أكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية إن طهران بدأت تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة في منشأة نطنز بعد أيام قلائل من حدوث انفجار في الموقع ألقت إيران مسؤوليته على إسرائيل. وهناك تساؤلات عدة مشروعة تطرح نفسها عقب هذا الإعلان الخطير أولها: هل يقترب نظام الملالي بالفعل من الحصول على سلاح نووي؟ وثانيها: هل يستطيع أي اتفاق نووي يتم التوصل إليه في ظل المعطيات الإستراتيجية الراهنة كبح جماح الطموح النووي الإيراني؟
والجواب على هذه التساؤلات يقتضي القول إن المسافة الزمنية والتقنية التي تفصل نظام الملالي الإيراني عن السلاح النووي ستبقى قيد التكهنات والتقديرات الاستخباراتية، التي تحاول جاهدة كشف غطاء أسرار البرنامج النووي الإيراني من خلال ما يصل إليها من معلومات أو تتوصل إليه عبر استنتاجات تحليلية، ولكن الواقع يقول أنه رغم نجاح «الموساد» الإسرائيلي في الحصول على أرشيف هذا البرنامج منذ عامين، ورغم حديث الملالي المتكرر عن «فتوى» المرشد التي تحول دون حصول هذا النظام على قنبلة نووية، و»تحرم» ذلك، فإن من الصعب للغاية بناء تقدير موثوق بشأن المسافة الزمنية والتقنية التي تفضل الملالي عن «القنبلة»، بل ليس من المبالغة القول بأن أي تقدير بشأن ذلك لن يقترب من الحقيقة كثيراً في ظل حالة السرية وعمليات الخداع المستمرة التي يقوم بها الملالي والتي تؤكدها المنشآت النووية السرية التي يكتشفها الخبراء مصادفة بين الحين والآخر، ناهيك عن الغموض والأسئلة التي يطرحها مفتشو وكالة الطاقة الذرية ولا يتم الرد عليها بشأن كميات اليورانيوم المخصبة مجهولة المصدر التي يعثرون عليها مصادفة أثناء عملهم.
التجارب التاريخية السابقة تقول إن بعض الدول قد فاجأت العالم بتجارب نووية لم تكن تتوقعها تقديرات الخبراء على الأقل بالنسبة للإطار الزمني ومستويات تقدم تلك البرامج، كما حدث في الحالتين الهندية والباكستانية وكما يحدث بالنسبة لكوريا الشمالية وغيرها، وإيران ليست استثناء من ملف السرية والغموض الذي يحيط بمثل هذه الأمور، وبالتالي يجب التعاطي مع أي تقديرات بهذا الشأن بحرص وتأن تام، لأنها لا تستطيع توفير الحقيقة كاملة لسبب بسيط هو غياب المعلومة الدقيقة أو حتى التي تقترب من الدقة. وتعد تصريحات رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية مثالاً على ذلك، حيث قال للتلفزيون الرسمي الإيراني بعد الحديث عن رفع نسبة التخصيب إلى 60 %: «الآن، نحصل على 9 غرامات في الساعة»، ولو افترضنا صحة هذا الكلام وأضفنا كمية المخزون التي وثقها تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نوفمبر عام 2019، وهي 2442.9 كيلو جرام، فإن الملالي يحتاجون في هذه الحالة إلى أكثر من مائة وأربعين عاماً للوصول إلى عتبات المخزون الذي كانوا يمتلكونه قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015 والذي تجاوز ثمانية أطنان من اليورانيوم المخصب، وهذا يعد نوع من العبث الإحصائي والسذاجة التحليلية لأن الأمد الزمني يجافي المنطق، ويفترض شفافية لا يمكن أن تكون قائمة في مثل هذه الحالات، ومصداقية غائبة عن نظام يرى في الخداع وسيلة أساسية للوصول إلى أهدافه وتحقيق طموحاته.
قناعتي أن الملالي يقفون بقوة على عتبة امتلاك سلاح نووي، ويسعون بكل الطرق لتجاوز عنق الزجاجة في هذا الشأن، ولكن من المشكوك فيه الاعتقاد بأنهم يمتلكونها وإلا ما ترددوا لحظة واحدة في التلويح بذلك، أو تسريب المعلومات الخاصة بذلك إلى من يهمه الأمر في الغرب وإسرائيل، أو ترك المهمة لأحد أصدقائهم من القوى الدولية، لذا هم يحاولون المناورة والمراوغة حتى امتلاك فرصة الإفلات بالقنبلة ثم بداية مرحلة جديدة في التعامل مع العالم. وهنا قد يقول قائل لماذا لا نفترض أن الملالي يمتلكون بالفعل سلاحاً نووياً ولا يريدون البوح بذلك خشية التعرض لضربة إجهاضية أو عقوبات دولية أشد صرامة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هدفهم الأساسي من السعي للحصول على قدرات نووية هو حماية النظام وردع من يعتبرونهم أعداء، لذا فإن وجود سلاح نووي سري لديهم يبقى موضع شك، كما لا يمكن بالمقابل أيضاً النفي القاطع لذلك في ضوء طبيعة هذا النظام الذي لا يمكن التكهن بتصرفاته ولا نواياه، أي أن العالم سيبقى رهن اللغز الإيراني حتى إشعار آخر!
في ظل هذا الواقع المعقد، هل يستطيع أي اتفاق نووي كبح جماح الطموحات النووية الإيرانية؟ الحقيقة أنه بالنظر إلى اتفاق «خطة العمل المشتركة الشاملة» التي وقعت عام 2015، بين إيران ومجموعة «5+1»، وبعد مرور خمس سنوات أي ثلث المدة الزمنية المنصوص عليها في الاتفاق (15 عاماً)، والتي اعتبرتها إدارة أوباما تأجيلاً للنووي الإيراني، لم يثبت الاتفاق أي فاعلية في تأجيل الطموح النووي لهذا النظام، وما يحدث بالفعل هو ترحيل للخطر والتهديد النووي الإيراني وتصديره للأجيال المقبلة!
صحيح أن الاتفاق قد تعثر عقب انسحاب الرئيس السابق ترامب منه عام 2018، ولكن لا يجب النظر إلى المسألة من هذه الزاوية فقط، فالانسحاب قد جاء عقب التيقن من أن الاتفاق لا يؤتي أكله، ولا يحقق أهدافه رغم محدوديتها وضيق أفق القائمين على وضعها، بل سمح للملالي بالتمدد والتوسع الإستراتيجي وانتهاك سيادة الدول الأخرى تحت مظلته، أي أنه وفر للملالي ما كانوا يحلمون به من دون أي عائد سياسي وإستراتيجي وأمني على المنطقة والعالم سوى تأجيل الخطر، ثم العودة إلى مربع التهديد النووي الإيراني بمجرد انتهاء الأجل الزمني للاتفاق!
الحقيقة أن المعضلة لا تكمن في تلويح الملالي بين الفينة والأخرى برفع نسب التخصيب لأن هذه النسب لا يمكن في كل الأحوال التيقن من صحتها سواء في ظل سريان الاتفاق من عدمه، لأن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تشير بوضوح إلى وجود أنشطة نووية إيرانية سرية، فضلاً عن أن التجارب جميعها تؤكد عدم إمكانية توفير معلومات دقيقة للمفتشين الدوليين في هذا الشأن لأنه ببساطة لا يمكن لأي نظام كهذا أن يتخلَّى تماماً عن السرية في مواجهة التفتيش الدولي. وبالتالي فالمراقبون، على الأقل، يتعاملون فقط مع الأرقام والنسب التي يريد الملالي إطلاع العالم عليها لا أكثر ولا أقل، رغم أن المعضلة الحقيقية تكمن في سلوك النظام وطبيعته وليست في قدراته العسكرية والعملياتية، فالأمر لا يتعلّق بامتلاك سلاح نووي، بل بمن يمتلكه وكيف يفكر تجاهه، وهذا لا يعني بالمقابل فتح المجال للانتشار النووي، لأنه يبقى سلاحاً محظوراً وخطراً في جميع الأحوال بغض النظر عن طبيعة الأنظمة والدول، ولكن يبقى الملالي حالة استثنائية بالنظر إلى اعتبارات عديدة منها نظرتهم الدونية لجوارهم الإقليمي ورغبتهم الشرسة في التغوّل والهيمنة وبسط النفوذ الأيديولوجي والأمني والسياسي على الآخرين، فضلاً عن رؤيتهم الأحادية المبتسرة للعالم ورفضهم للآخر، وصعوبة امتثالهم لمبادئ وقواعد القانون الدولي.