لا شك أنه مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يشهدها مجتمعنا السعودي اليوم نتيجة التحديث والمعاصرة.. ألقت بظلالها على واقع البناء الأسري ووظائفه، وفي كثير من الاتجاهات السلوكية والتربوية والقيمية.. ومن هذه المتغيرات وإرهاصاتها التي أثرت على الكيان الأسري وعلى استقراره ما تعانيه بعض الأسر من (غياب) الأب وقتًا طويلاً. ومعروف أن غياب الأب يأخذ أشكالاً عدة ومظاهر؛ فقد يكون بسبب الطلاق، أو المرض، أو عمل الأب لمدة طويلة حيث يخرج من الصباح ويعود في ساعات متأخرة من المساء؛ وبالتالي يكون غير متفرغ لأبنائه والجلوس معهم، وإشباع حاجاتهم النفسية والعاطفية والاجتماعية، وأيضا من مظاهر غياب الأب زواجه من أخرى، وإقامته معها بعيداً عن الأسرة الأولى. ومعروف أن الأب يحتل مكانة خاصة ومهمة في الخارطة المنزلية، ويلعب دورًا محوريًّا ومفصليًّا في تماسك النسيج الأسري وضبط توازنه؛ ولذلك لم يطلق على الأب لقب (رب الأسرة) من فراغ..!! أو رجماً بالغيب..!! بل لأن وجوده يشكّل (صمام الأمان) الذي يحفظ هوية الأسرة من الضياع والتفكك، ويتيح للأبناء الاقتداء به، والسير على منهجه التربوي السليم، ويعطيهم الإحساس بالأمن والأمان وتحقيق الاستقرار الوجداني والنفسي، الاجتماعي والأسري؛ ولذلك فإن غياب العنصر الأهم داخل النسق الأسري (الأب) له آثار سلبية، ربما تهدد الكيان المنزلي إذا طال الغياب.. منها على سبيل المثال لا الحصر: حرمان الأبناء - وبالذات الأطفال - من مناخ الحب والعطف والحنان الصحي، وقد يؤدي غياب الأب المستمر إلى جنوح وانحراف الأبناء أخلاقيًّا وسلوكيًّا، خاصة مع وجود عوامل مؤثرة وجاذبة للسلوك الخارج عن قواعد الضبط الأخلاقي والاجتماعي والقيمي.. كالمواقع الإلكترونية المشبوهة وشبكات التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية خاصة تلك القنوات الهابطة التي تستهدف هدم القيم والأخلاق والمعايير الاجتماعية الأصيلة، فضلاً عن جماعة الرفق «غير الأسوياء»، وتأثيرهم في وقوع بعض الأبناء - بالذات المراهقون - ضحية لانحراف هذه الفئة الشاذة قيمياً، بعد أن ينطلق سلوكهم الإجرامي وتعلمه من (نظرية التقليد والمحاكاة)، واكتساب بعض التصرفات والممارسات المناهضة للقيم المجتمعية والأخلاقية.. والصاحب ساحب كما يقولون في المثل العامي..!! كما أن غياب الأب يؤثر في نمو «الطفل» واكتسابه الأدوار الاجتماعية الإيجابية، وعلى بناء ثقافتهوتشكيل شخصيته النفسية والاجتماعية، ويمتد تأثير ذلك الغياب على التحصيل الدراسي وإخفاقه التعليمي، وعلى أيضًا مستوى التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والعقلية والإيمانية، وقد يكون هذا الغياب (المستمر) أحد الأسباب الرئيسية للتفكك الأسري، وخلخلة توازنه النفسي والعاطفي والاجتماعي.
ولذلك فإن (الأب) هو الملجأ الوحيد الذي يحتاج إليه الأبناء والزوجة عند كل كرب وضيق وأزمة..!! وفي البناء الأسري برمته يحتاجون إليه كموجه وقائد بنيوي.. يقود سفينة أسرته إلى بر الأمان بكل وعي وحكمة واتزان؛ لذا ينبغي على كل (أب) انشغل عن أبنائه وأسرته، وكثر غيابه عن منزله بالحجج الواهية، والتخلي عن واجبه تجاه زوجته وأبنائه، أو صرفه المال ومغرياته.. أن يدرك بوعي أن الاستثمار الحقيقي يكون في بناء كيان أسري سليم، يتمتع بصحة نفسية سوية، واستقرار عاطفي ووجداني، وفي تنشئة الأبناء التنشئة الاجتماعية والأخلاقية السليمة.. وليس الاستثمار المالي الذي كان من أسباب غياب بعض الآباء عن المنزل. فالمطالب المادية للأسرة لا يمكن أن تكون بديلاً عن المطالب النفسية والجوانب التربوية لخطورة ومدى الفراغ السلبي الذي يتركه هؤلاء الآباء بغيابهم المستمر على الأبناء، وما يتسبب ذلك في خلق «تشوهات» نفسية، ومثالب عاطفية، وعلل اجتماعية عند أفراد الأسرة.. فما أروع قاعدة التوازن والوسطية والاعتدالية في كل شيء.. وهي منهج الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في حياته الأسرية والاجتماعية.
أما عندما يكون غياب الأب (اضطراريًّا)، وربما يطول عن شؤون بيته، فينبغي أن يدعم مكانة الأم، ويعزز موقعها في خارطة البناء الأسري والتربوي، ويحث الأبناء على احترامها وطاعتها وإعطائها حقوقها ومكانتها؛ لأن هناك - مع الأسف - أمهات تحمّلن زمام المسؤوليات، وعشن صراع الأدوار ما بين دور الأب ودور الأم داخل النسيج المنزلي.. في ظل غياب الأب المستمر دون أن يحصلن على حقوقهن المادية والأدبية واحترام كيانهن، ومشاعرهن!!.. مما جعل بعضهن يشعر بالحرمان والتهميش والمرارة والإحباط..! لأن الزوج رغم غيابه لم تجلب عودته للبيت إلا مزيدًا من العنف والقسوة والنزاع والجفاف العاطفي والأوجاع الأسرية.. وبالتالي أصبح واقع هذه الأسرة (أسرة مفككة) ومنهارة وجدانيًا ونفسيًا..!! ولذلك على كل أم واعية ومبصرة أن تتحمل تبعات غياب الأب المضطر، وتسخر كل طاقاتها وقدراتها لتربية أطفالها وتنشئتهم التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والإيمانية، حتى لو كان ذلك من خلال صراع الأدوار.. دورها كأم، والقيام بدور ومسؤوليات الأب الغائب في نطاق الحدود الممكنة.. والأم التي تملك الوعي الأسري، والطاقة الإيجابية والروح البنائية.. والإيمان القوي.. هي التي تشجع باستمرار السلوك والصفات الرجولية في أطفالها، وغرس بذورها في الوجدان والأذهان حتى لو غاب الأب!.. ومثل هذه الأم النموذجية «لا شك قادرة على تعويض أطفالها عن غياب والدهم، وتزويدهم بسبل التكيف الاجتماعي والنمو النفسي، والتوازن العاطفي».. وهي قادرة أيضًا على التعامل مع الأحداث ومثالبها التي تدور في فلك كيانها الأسري بوعي وحكمة واعتدال دون أن تنقل للأب الغائب كل ما يحصل للأبناء من مشاكل بسيطة يمكن علاجها وضبط توازنها إلا في أمور تتطلب معرفة الأب (المتغيب) حقيقتها إذا اقتضى الأمر!